

بقلم : يوسف عبدالرضي
• حين تمسك بديوان «المنحدر» للشاعر الكبير عبدالوهاب هلاوي، تشعر منذ الوهلة الأولى أنك تدخل تجربة شعرية تتقاطع فيها جراح الوطن مع نبض الإنسانية. فالعنوان وحده، «المنحدر»، يحمل دلالاتٍ كثيفة، توحي بالسقوط والتدحرج نحو المجهول، كما لو أن الشاعر يصف حال البلاد والعباد في زمنٍ مضطربٍ لم يجد بعد طريقه إلى الثبات.
لكن قبل أن تتورط في التأملات، يلفت نظرك الغلاف بألوانه ودلالاته. الأحمر القاني الذي يذكّر بدماء سالت في غير موضعها، والأسود الذي يرمز إلى الحزن العميق الذي يسكن إنسان اليوم، والرمادي الذي يوحي بضبابية الرؤية وغياب اليقين، بينما يتربع في الأعلى اللون الأبيض كرمزٍ للأمل، وكأن الشاعر يريد أن يقول: “مهما كان الانحدار حادًا، لا بد أن تلوح في الأفق فسحةُ ضوء”.
إهداء من رحم الألم
يبدأ الديوان بإهداء موجع:
إلى روح زوجتي التي اغتالتها الحرب خارج الديار.
إهداء قصير لكنه يختصر وجعًا إنسانيًا وجمعيًا في آنٍ واحد. ففيه تختلط المأساة الشخصية بالمأساة العامة، ويتحوّل الألم الفردي إلى رمزٍ لوجع وطنٍ بأكمله، كأن «المنحدر» ليس مجرد عنوانٍ بل حالة وجودية يعيشها الشاعر ومن حوله.
بين الأسئلة والوجع
يفتتح هلاوي الديوان بنصٍ يحمل العنوان نفسه، “المنحدر”، وهو نصٌّ مثقل بالأسئلة، كأن الشاعر يناجي الزمن والعالم معًا:

معقول لهذا المنحدر؟
ثم يأتي السؤال الأشد وجعًا:
معقولة يا وطن الجمال أصبحنا أضحوكة بشر؟
في هذا التساؤل المكثف تتجسد خيبة الإنسان السوداني أمام واقعٍ من الحروب والانقسامات، ومع ذلك لا يفقد الشاعر إنسانيته ولا حسّه الساخر النبيل، إذ يكتب وكأنه يرفض الانكسار.
الخرطوم.. شهادة عشق وصمود
في نصه «الخرطوم»، يرفع هلاوي صوته عاليًا:
حدث هلاوي العالم عني، يكفي نحن طلعنا ما خايفين.
هذه العبارة تلخص روح الديوان: الشجاعة في مواجهة الانحدار. فالخرطوم عنده ليست جغرافيا، بل رمزٌ لكرامة الإنسان، مدينة تُقصف لكنها لا تنحني، تُحاصر لكنها تظلّ تنجب الشعراء والأغنيات.
الأمل رغم الجراح
وفي نصٍ آخر بعنوان «ال ياسر»، يتجلى الوجه الآخر من تجربة هلاوي: الإيمان بالصبر والتفاؤل. يكتب الشاعر كمن يتمسك بآخر خيوط الضوء، مؤمنًا أن الحلم لا يموت مهما كان الليل حالكًا. هذا المزج بين الألم والأمل هو ما يمنح الديوان عمقه الإنساني، ويجعله يتجاوز الحدود الجغرافية ليصبح خطابًا لكل من عاشوا الانكسار ولم يفقدوا الإيمان بالغد.
هلاوي.. صوتٌ من الضمير الجمعي
عبدالوهاب هلاوي ليس شاعرًا عابرًا في المشهد السوداني، بل واحد من الأصوات التي صنعت الوجدان العام عبر الأغنية والشعر. هو من القلائل الذين جمعوا بين بساطة المفردة وعمق الفكرة، وبين العامية القريبة من القلب، والرؤية التي تخاطب العقل والضمير.
منذ بداياته مع «فراش القاش»، مرورًا بأغنياته التي تغنّى بها كبار الفنانين، وحتى وصوله إلى «المنحدر»، ظل هلاوي قابضًا على جمرة القضية، مؤمنًا أن الكلمة يمكن أن تكون جسرًا نحو السلام، لا أداةً للانقسام.
من العامية إلى العالمية
ما يميز شعر هلاوي أنه جعل العامية السودانية فضاءً رحبًا للتعبير عن القضايا الكبرى. لغته تنبض بالبساطة، لكنها تحمل شحنة فكرية عالية. لا يتكلف في الصور، بل يرسمها بعفويةٍ صادقة، فتصل مباشرة إلى الوجدان.
في «المنحدر» يبرهن مرة أخرى أن الشعر الشعبي ليس أقل شأنًا من الفصيح، بل هو مرآة لروح الأمة في لحظات ضعفها وقوتها.
ديوان للزمن الصعب
«المنحدر» ليس ديوانًا يُقرأ للتسلية، بل هو وثيقة شعرية تؤرخ للحظةٍ وطنيةٍ مأزومة، وتشهد على جيلٍ عاش الغربة والاقتلاع والحنين. فيه نلمس صوت المقهور ونبض الحالم معًا، كأن الشاعر يكتب من قلب النار، لكنه ما زال يرى في رمادها بذرة حياة.
خاتمة
يخرج القارئ من «المنحدر» محمّلًا بالأسى، لكنه أيضًا مشحون بالأمل. فبين السقوط والنهوض، بين الدمعة والابتسامة، يقف عبدالوهاب هلاوي شاعرًا كبيرًا كتب للناس وللوطن، مؤمنًا أن الشعر يمكن أن يكون «طوق نجاة» حين تضيق الممرات.
إنه شاعر لم يكتب ليبكي، بل كتب ليذكّرنا بأن الجمال ما زال ممكنًا، وأننا مهما تدحرجنا في هذا المنحدر، فهناك دائمًا لونٌ أبيض ينتظرنا في الأعلى.
شارك القراءة