
التعليم الذي يعانق الأرض والإنسان

إعداد: معتصم تاج السر
عضو مؤسس لحركة السودان الأخضر
• في ظل الأزمة الاقتصادية التي ألقت بظلالها على التعليم والمجتمع، تبرز الحاجة لرؤية تعليمية بديلة تُعيد للمدرسة دورها المركزي في بناء الإنسان والمجتمع.
من هنا، تأتي مبادرة المدرسة الإنتاجية الإبداعية الخضراء، كمشروع رائد يجمع بين المعرفة الأكاديمية، والمهارات العملية، والانتماء البيئي، لتُشكل حجر الزاوية في نهضة مجتمعية متكاملة، تُحول المدارس إلى منصات إنتاج وتعلم وابتكار، تُخرج أجيالاً قادرة على تحقيق التنمية المستدامة من قلب بيئتها.
المدرسة كمنصة إنتاج وتغيير
المدرسة الإنتاجية ليست مجرد صرح للتعليم النظري، بل هي مركز إشعاع مجتمعي وحلقة وصل بين المعرفة والواقع، وبين التلميذ ومجتمعه.
يتم عبرها تفعيل الجمعيات التعاونية داخل المدارس، في الزراعة والإنتاج الحيواني، والصناعات الغذائية، والحرف، بحيث تتحول المدارس إلى حواضن إنتاجية تعود بالنفع على التلاميذ والمجتمع.
لماذا نحتاج هذا النموذج في السودان؟
في واقع تتآكل فيه مقومات الاكتفاء الذاتي ويتراجع فيه التعليم عن أداء أدواره المجتمعية والاقتصادية نحتاج إلى مدرسة تُربي الإنسان على الإنتاج والابتكار.
في وطن غني بالموارد لكنه يعاني من سوء استغلالها تصبح المدرسة الإنتاجية الإبداعية الخضراء ضرورة وطنية لا ترفاً فكرياً.

ما هي المدرسة الإنتاجية الإبداعية الخضراء؟
هي نموذج تعليمي سوداني مستلهم من البيئة المحلية، قائم على الدمج بين التعليم النظري والتطبيق العملي في مجالات مثل:
الزراعة والبستنة
الإنتاج الحيواني والبيطرة
الصناعات الغذائية
الحرف والمهارات التقنية
الطاقة البديلة (الشمسية، الحيوية)
البيئة وتدوير المخلفات
تُحول المدرسة إلى ورشة حياة، وفناءها إلى حقل ومصنع ومختبر ومجتمع صغير نابض.
تفاصيل التنفيذ في كل مرحلة
1. الزراعة داخل فناء المدرسة
زراعة خضروات موسمية (طماطم، بامية، جزر، كوسة).
إقامة مشتل مشترك بين المدرسة والمجتمع لزراعة الأشجار المثمرة.
إقامة محاضرات دورية عن التسميد العضوي، الري بالتنقيط، حماية النباتات.
التلاميذ يشاركون في زراعة محاصيل تُوزع على أسرهم الفقيرة أو تُباع لدعم المدرسة.
2. الإنتاج الحيواني المبسط
بداية بحاضنة دواجن (50 كتكوت) يتعلم الطلاب عبرها أسس التربية والرعاية.
إنشاء حظيرة نموذجية لحيوان واحد (ماعز أو خراف) للتعلم والمساعدة في إطعام أسر فقيرة.
فصول توعية صحية عن سلامة الغذاء الحيواني، وعلاج الإصابات والأمراض الشائعة.
التعاون مع بيطري الحي لتقديم خدمة بيطرية أسبوعية للمجتمع.
3. الصناعات الغذائية
تصنيع الزبادي داخل المدرسة باستخدام اللبن المحلي.
دروس تطبيقية لصناعة الخبز والفطائر، وتعبئتها وتغليفها.
تعليم تلميذات المدارس طرق تعقيم وحفظ الأغذية (تعليم ربة الأسرة المستقبلية).
إشراك أولياء الأمور في ورش مفتوحة لصناعة المربى والجبن والصلصة.
4. الإنتاج الحرفي والمهني
ورش النجارة (تصنيع مقاعد، صناديق، أبواب).
ورش خياطة للبنات لعمل المرايل والحقائب المدرسية.
تدريب عملي على صيانة الأجهزة الكهربائية المنزلية والمولدات الشمسية الصغيرة.
دورة في تدوير المخلفات البلاستيكية لصناعة أدوات مدرسية.
التقويم التعليمي التكيفي
تقسيم السنة إلى «فصول معرفية وإنتاجية».
لا وجود لعطلة طويلة تُفصل الطالب عن بيئته، بل توجد عطلات دورية قصيرة تسمح له بالتفاعل المستمر.
الصباح الدراسي مرن: في القرى يبدأ 9 صباحاً بعد سقي المواشي أو العمل الزراعي، في المدن يبدأ 7:30 صباحاً.
علاقة المدرسة بالمجتمع:
1. مجلس المدرسة المجتمعي
مكون من معلمين + ممثلين عن أولياء الأمور + معتمد الحي + صاحب مزرعة + خريج جامعي متطوع.
يشرف على المشاريع المشتركة، والتقويم الزراعي، وحل النزاعات، واستقطاب التمويل.
2. المدرسة مركز خدمات
مركز تدريب للفتيات والشباب العاطلين.
عيادة بيطرية أسبوعية.
مركز بيع البذور والمخصبات بسعر رمزي.
مقر اجتماع للروابط التعاونية الإنتاجية.
3. الاقتصاد الدائري داخل المدرسة
تُستخدم مخلفات الحديقة كسماد.
تُربى الدواجن على بقايا الطعام.
تُجمع مياه الأمطار لاستخدامها في الري.
يُستخدم الخشب التالف في ورش النجارة.
أثر المدرسة على سلوك الطالب
يصبح التلميذ منتجاً لا مستهلكاً.
يكتسب المهارات الحياتية: الاعتماد على النفس، الصبر، الدقة.
يكتسب مفاهيم السيادة الغذائية، حماية البيئة، العمل الجماعي.
يتعلّم كيف يربط النظري بالعملي، والمجرد بالمحسوس.
فرص التطبيق في السودان
يمكن أن تبدأ كتجربة نموذجية في كل ولاية داخل مدرسة واحدة فقط.
بدعم أولي من الحكومة أو منظمات المجتمع المدني أو المبادرات المحلية.
تُربط ببرنامج تلفزيوني تعليمي لتوسيع الأثر وتبادل الخبرات بين المدارس.
يمكن توجيه جزء من زكاة المال والزروع لدعم هذه المدارس.
توأمة مع مدارس في أفريقيا والهند للحصول على تبادل معرفي وموارد.
أثر المشروع على الدولة
يخفف الضغط على سوق العمل ويوفر وظائف ذاتية.
يخفض فاتورة الاستيراد الغذائي تدريجياً.
يزيد انتماء الشباب لمجتمعهم ويقلل الهجرة الداخلية والعشوائية.
يسهم في الأمن الغذائي والمجتمعي والبيئي.
الحلم الأخضر يبدأ من المدرسة
إن المدرسة الإنتاجية الإبداعية الخضراء ليست مشروعا تعليميا فقط، بل هي مشروع وطني لبناء الإنسان السوداني الجديد.
هي بوابة للوصول إلى قرى مكتفية، وشباب منتج، وأسر مستقرة، ودولة قوية تعتمد على نفسها.
فلنجعل كل مدرسة في السودان بذرة أخضر، وحاضنة أمل، ومنصة إنتاج.
المرحلة الأولى: الزراعة داخل المدرسة
إنشاء جمعية إنتاج زراعي بإدارة خريجي الزراعة أو شباب الحي.
تحويل جزء من فناء المدرسة إلى مشتل ومزرعة صغيرة.
تدريب الطلاب عملياً وتوفير منتجات غذائية للحي والمدرسة.
دعم فواتير الماء والكهرباء، وحوافز العمال والمعلمين.
المرحلة الثانية: الإنتاج الحيواني
إنشاء جمعية إنتاج حيواني بالتعاون مع خريجي البيطرة.
تربية دواجن وسمان، وإنشاء فقاسات وبيوت حيوانات.
تقديم خدمات بيطرية للمجتمع، وتدريب الطلاب عملياً.
بيع منتجات بأسعار رمزية، وتشغيل الفقاسة للأهالي.
المرحلة الثالثة: التصنيع الغذائي البسيط
إقامة ورش صغيرة لإنتاج الأجبان، الزبادي، الخبز، الأعلاف.
توفير فرص عمل داخل المدرسة وتنمية مهارات التلاميذ.
ربط المدرسة بسوق المجتمع وتحقيق دخل مستدام.
مرونة التقويم الدراسي
تم تصميم التقويم الدراسي ليواكب المواسم الزراعية والرعوية والصناعية.
ففي المناطق الزراعية يُراعى موسم الحصاد والري، وفي الرعوية يُراعى توقيت الرعي، كما تُضبط بداية اليوم الدراسي حسب النشاط اليومي للمجتمع المحلي، ليكون التعليم متسقًا مع حياة الناس لا مفصولاً عنها.
المناهج المرتبطة بالبيئة
تُعد المناهج انعكاساً لواقع الطالب:
الزراعة في المناطق الزراعية.
البيطرة والإنتاج الحيواني في المناطق الرعوية.
الصناعات الغذائية في المناطق الحضرية.
تعليم الحرف المحلية والصيانة والنجارة والتدوير.
إشراك المجتمع المحلي
إشراك كبار السن والمعاشيين كمرشدين.
التعاون مع الأسر لتوفير التدريب العملي.
فتح المدرسة كمركز خدمات للمجتمع (زراعي، بيطري، إنتاجي).
إنشاء روابط بين المدارس والمؤسسات الإنتاجية في الحي.
الابتكار والإبداع نهج دائم
الطلاب ليسوا متلقين بل مبتكرون، يصممون أدوات بسيطة، ويبتكرون حلولاً محلية لتحدياتهم اليومية.
تُشجع المدرسة المشاريع الجماعية والتعاونية بين الطلاب والأهالي، مما يخلق بيئة تعلم نشطة ومحفزة.
المدرسة كمركز للتنمية المحلية
بفضل هذا النموذج، تتحول المدرسة إلى مركز خدمات مجتمعية:
مكان لتسويق المنتجات المحلية.
مجلس تنمية محلي مصغّر.
ملتقى للخبراء والشباب.
مصدر إلهام لبقية المؤسسات المجاورة.
رؤية عالمية – تجارب مُلهِمة
تستند هذه الفكرة إلى نماذج عالمية ناجحة مثل:
أغروسكول – الدنمارك: الدمج بين الزراعة والتعليم.
EARTH University – كوستاريكا: الزراعة والتنمية الريفية.
غرين سكول – بالي: التعليم المستدام والتصميم البيئي.
والدورف – حول العالم: الربط بين الطبيعة والفن والتعليم.
مدارس الأمل الأخضر – الهند: تمكين الفقراء عبر التعليم البيئي.
مدارس مونتيسوري الزراعية – أمريكا: تعزيز التفكير النقدي والإنتاج.
الدروس المستفادة
النماذج العالمية تؤكد أن التعليم حين يُربط بالإنتاج المحلي والبيئة، يصنع أجيالاً مبدعة ومجتمعات مكتفية وواعية.
والمفتاح هو:
المرونة – الإبداع – المشاركة المجتمعية – المناهج السياقية.
التعليم بوابة السيادة
إنها ليست فقط مدارس، بل بوابات نحو السيادة الغذائية، والنهضة المستدامة، وبناء الإنسان السوداني المبدع الذي ينتج من أرضه، ويخدم مجتمعه، ويرتقي بوطنه.
فالمدرسة الخضراء ليست مجرد حلم.
بل هي وعد ومشروع وواقع قادم بإذن الله.
الوعد والمُنى
نحو سودان أخضر واعد
إن المدرسة الإنتاجية الإبداعية الخضراء تمثل أحد أهم أهداف حركة السودان الأخضر، وهي حجر الأساس لرؤيتها في تحقيق التغيير الإيجابي الإنسيابي الإبداعي الأخضر.
سوف تُنشئ هذه المدارس في كل بقعة من السودان، من الشمال حتى الجنوب، ومن الشرق حتى الغرب:
في الشمالية كالنخيل شامخة.
في دارفور تنبض بالإبداع كجبل مرة.
في الجزيرة كأنها تروى بنبض النيل.
في كردفان، تغنيها «أم خيرا جوه وبره».
في شرق السودان، كأنها نسمة البحر.
في بحر أبيض، نهر آخر للحياة.
في جبال النوبة ونهر النيل، يرتفع فيها علم التنمية.
شارك المقال