
د. حاتم محمود عبدالرازق
لواء شرطة متقاعد - محام ومستشار قانوني
• لا شيء أثمن من الوقت، ولا مورد أكثر عدلًا في توزيعه بين البشر منه. فكل إنسان، غنيًا كان أو فقيرًا، يملك في يومه أربعًا وعشرين ساعة، لكنها تُستثمر بطرق متباينة، فتُبنى بها حضارات وتنهار بها أخرى.
الوقت.. قيمة حضارية وأداة نهضة
الأمم التي تقدّمت لم تفعل ذلك بالسحر، وإنما بالعمل الجاد، واستثمار الوقت كقيمة جوهرية في ثقافتها. فاحترام الوقت جزء من احترام الذات، والتزام بالمسؤولية، وأساس لكل تقدم معرفي واقتصادي وإداري.
في كثير من الدول التي لجأ إليها السودانيون خلال الحرب، لمسوا هذا بوضوح. في تلك البيئات، يُعد موعد العمل زمنًا مقدسًا، لا يقبل التهاون أو التأجيل. فإذا تأخر الموظف عن الوقت المحدد، يُخصم من راتبه، لا لشيء إلا لأن الوقت لديهم ليس ملكًا خاصًا، بل حق عام يجب احترامه.
واللافت أن غالبية السودانيين الذين التحقوا بأعمال خارج البلاد، التزموا التزامًا صارمًا بالمواعيد والعمل، والسبب في ذلك بيئة عمل تفرض رقابة قوية، ولا تعرف المجاملة، وتُفعّل العقوبات بلا تردد. مما يجعلنا نُقرّ بحقيقة مؤلمة أن العيب فينا، وفي بيئتنا المحلية التي تغيب عنها المحاسبة، وتُعطل فيها الضوابط، وتسود المحسوبية.
في السودان.. ثقافة التسويف وتبديد الزمن
للأسف، لا يزال الوقت في ثقافتنا السودانية يعاني من الغبن. فكم من مواعيد تُحدد ولا تُلتزم! وكم من ساعات عمل تُهدر في محادثات جانبية عبر الهاتف أو مع الزملاء أو في الخروج دون إذن لمهمات لا علاقة لها بالوظيفة، بل وأحيانًا يكون الخروج جماعيًا لمجاملة زميل أو عيادة مريض، وهو عمل جيد لكن ليس على حساب العمل!
بل حتى الصلاة – التي هي عبادة عظيمة – قد تُستغل لتطويل غير مبرر على حساب وقت العمل، في خلط بين العبادة وبين التهرب من الواجب. والإسلام نفسه نهى عن ذلك، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه».
ومن أبرز المظاهر السلبية أيضًا، إساءة استخدام عبارة «إن شاء الله»، والتي تحولت من تعبير عن التوكل والتفويض، إلى وسيلة للتهرب والتسويف، حتى أصبحت موضع سخرية في بعض الثقافات.
سلبيات عدم احترام الوقت
تراجع الإنتاجية: فالعمل الذي يُفترض إنجازه في ساعة، قد يمتد ليوم أو أكثر.
ضعف الثقة المؤسسية: حين يُنظر إلى الموظف والعامل السوداني – حتى خارج بلده – بوصفه غير منضبط زمنيًا – إلا من رحم ربي.
تعطيل مصالح الناس: إذ يترتب على تأخر الموظفين في الجهات الحكومية، تعطل معاملات المواطنين، وتكاثر صفوف الانتظار.
غياب القدوة: حين يرى الأبناء والطلاب أن الكبار لا يحترمون الزمن، تتكرس فيهم العادات ذاتها.
ما يجب أن نستفيده من الآخرين
علينا أن نستلهم من الشعوب التي خالطناها – بعد الحرب – أهمية الانضباط في المواعيد، والعمل وفق جداول دقيقة، والاعتذار الصادق عند الخطأ، لا التبرير المستمر. لقد رأينا كيف يخرج الموظف مبكرًا من بيته، واضعًا في اعتباره طول المسافة وصعوبة المواصلات، لئلا يتأخر. لا أحد هناك يقبل أن تكون صعوبة المواصلات أو المسافة ذريعة للتأخير، لأن الوقت مقدّس، يُحسب بالدقيقة.
دعوة لنهضة أخلاقية ووطنية
نحن بحاجة إلى وقفة حقيقية وصارمة في السودان لمعالجة ثقافة التسيُّب. لا نحتاج أن نخترع أنظمة جديدة، فالكثير من الضوابط موجود فعلًا لكنها غير مفعّلة. نحتاج لتطبيق صارم وعادل، وقدوة تبدأ بنفسها قبل أن تطالب الآخرين، ومحاسبة رادعة لكل من يتجاوز. فـ»من أَمِن العقوبة أساء الأدب»، ومن غاب عنه الرقيب، غابت عنه الجدية.
الوقت هو سر النهضة.. فلنستثمره
ليكن شعارنا: «الوقت رأس مال لا يُعوّض»، ولنُحيِ في نفوسنا روح الجدية، ونبذ التكاسل، وعلو الهمة، فبذلك فقط تُبنى الأوطان وتُستعاد الكرامة.
شارك المقال