المحسوبية والفساد الإداري: سوسة تنخر جسد الدولة وتعيق النهوض

24
د. حاتم محمود عبدالرازق

د. حاتم محمود عبدالرازق

لواء شرطة متقاعد - محام ومستشار قانوني

• في اللحظات الفارقة من عمر الشعوب، تتجلى حقيقة التحديات التي تهدد مسيرة البناء، ولا يكاد يعلو خطر على خطر المحسوبية والفساد الإداري، الذي يستنزف مقدرات الدولة ويهدر ثقة المواطن ويقوّض أسس العدالة والمساواة.

إن المحسوبية، في جوهرها، هي انحراف عن مقتضى المسؤولية، حين يتجاوز المسؤول ضوابط النظام، ليمنح امتيازًا لا يستحقه أحد لمجرد قرابة أو توصية أو منفعة مادية أو مصلحة شخصية. وهي لا تُقصي فقط أصحاب الكفاءة، بل تدمر معنى الجدارة وتفقد الناس الإيمان بجدوى العمل والمثابرة.

وما يزيد الأمر سوءًا، أن هذه المحسوبية كثيرًا ما تقترن بالتعسف الإداري، حيث يُطالَب البعض بشروط تفوق ما يُطلَب من غيرهم، أو تُعرقل معاملاتهم عمدًا، أو يُرغمون على تقديم تنازلات، أو حتى دفع رشاوى، في مقابل ما ينبغي أن يُمنح لهم بالحق لا بالمنّة.

والأشد فظاعة من ذلك، هو ما يمارسه بعض المسؤولين من ابتزاز للعنصر النسائي، باستغلال مواقعهم الوظيفية لفرض رغبات منحرفة لا يقوم بها إلا من فسدت ضمائرهم ومرضت قلوبهم. وهي جريمة أخلاقية وإنسانية، قبل أن تكون مخالفة قانونية، يجب التصدي لها بكل حزم.

لقد جاء الدين الحنيف واضعًا ضوابط دقيقة لمن يتولى الشأن العام، وأرسى قاعدة «العدل أساس الملك». ونهى النبي ﷺ عن قبول الهدايا لمن وُلي أمرًا من أمور المسلمين، واعتبر ذلك غُلولًا يُحاسب عليه الإنسان يوم القيامة. كما جاءت الأحاديث واضحة في لعن الراشي والمرتشي، والتحذير من الوقوع في الشبهات.

وإذا كنا اليوم نعيش مرحلة فارقة في تاريخ السودان، ونستعد لاستقبال دعم خارجي ومشاريع إعادة إعمار كبرى، فإن خطر المحسوبية والفساد الإداري يتعاظم. فكل تجاوز في إرساء العطاءات، وكل عمولة مفروضة، وكل علاقة تتقدم على الكفاءة، هي خيانة في حق الوطن، وطعنة في صميم فرص نهوضه.

إننا لن نبني السودان الذي نطمح إليه، ما لم نُحسن الإدارة، ونجعل من الشفافية والمساءلة والمساواة أمام القانون مبدأً حاكمًا لا يُستثنى منه أحد. ليس المطلوب أن يكون كل الناس صالحين، فهذا أمر متعذر، ولكن المطلوب أن تكون لدينا نُظم رقابة صارمة، تحاصر الفساد، وتُخضع الجميع للمساءلة، وتغلق أبواب الانحراف.

لقد رأينا بأعيننا كيف تُدار الأمور في الدول التي عبرنا إليها بعد خروجنا من السودان: شفافية في الإجراءات، وضوح في المعايير، لا مجال فيها للوساطة أو الاستغلال أو الابتزاز. فهل نرضى لأنفسنا أن نعيش دومًا في هوامش الفوضى بينما الآخرون ينهضون ويزدهرون؟

الجواب يبدأ من أنفسنا، من رفضنا أن نكون جزءًا من شبكة الفساد، من حرصنا على المطالبة بحقوقنا بعدل، ومن أداء واجباتنا بأمانة. ويبدأ من المسؤول حين يتقي الله في الناس، ويعلم أنه سيسأل عن كل قرار، وكل توقيع، وكل تفضيل غير مستحق.

إنها مسؤوليتنا جميعًا، مسؤولين ومواطنين، أن نطهر بيئة العمل العام من هذا الوباء، ونُعلي قيم النزاهة والعدل، لأن ما نُضيعه اليوم لن نسترده غدًا، وإن الوطن الذي يُبنى على المحسوبية لا ينهض، بل ينهار، ويخسر المستقبل قبل أن يخطو إليه.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *