الكريمت صنعت المجد بالعلم والكرم

999
يوسف عبدالرضي2

يوسف عبدالرضي

شاعر وكاتب صحفي

• شمال غرب مدينة المناقل، حيث تمتزج رائحة الطين بعبق الخضرة  وحكايات الأجيال، تتربع قرية الكريمت شامخة كرمزٍ للكرم والعلم والتكافل الاجتماعي. هذه القرية الصغيرة في ذالك الزمان الكبيرة في عطائها، ما زالت حتى اليوم تمثّل أنموذجًا نادرًا للتلاحم الإنساني، وللريادة التعليمية والاجتماعية في منطقة الجزيرة.

من ود المنسي إلى الكريمت.. بدايات الوعي

كانت بدايتنا من ود المنسي، حيث بدأنا أولى خطواتنا في التعليم الابتدائي، نحن من الجيل الذي عاصر التحول الجذري في النظام التعليمي بالسودان. فقد انتقلنا من نظام «الأولية» الذي كان يستمر أربع سنوات، إلى النظام الجديد: ست سنوات للمرحلة الابتدائية، وثلاث سنوات للمتوسطة، وثلاث سنوات أخرى للثانوي العام، وصولًا إلى التعليم العالي.

ذلك التحول لم يكن مجرد تغيير في السلم التعليمي، بل فتح الباب أمام تنافس علمي غير مسبوق، خاصة في ظل قلة المدارس المتوسطة حينها، وهو ما جعل الالتحاق بها حلماً يسعى إليه أبناء القرى كافة. وفي هذا السياق، برز اسم الكريمت  كواحدة من القرى التي احتضنت طلاب العلم، وقدمت مثالاً للريادة التعليمية.

مدرسة الكريمت مدرسة واحدة من عدة أنهر

كانت المدرسة المتوسطة بالكريمت أشبه بخلية نحلٍ، فمن فصل واحد تتفرع أربعة فصول: (أ، ب، ج، د)، في مشهد يعكس الإقبال الكبير على التعليم في تلك المرحلة. ورغم محدودية الإمكانات، استطاعت المدرسة أن تستوعب هذا العدد الهائل من الطلاب القادمين من قرى متعددة. 

أما الداخليات فكانت لا تستوعب جميع الأعداد الكبيرة من الطلاب، مما جعل من الإقامة فيها تحديًا حقيقيًا. ومع ذلك، لم يمنع ذلك الحلم من أن يكبر، ولا الرغبة في التعلم من أن تشتعل في صدور أبناء الريف.

إلى جانب المدرسة المتوسطة، كان هناك معهد ناصر؛ الذي اشتهر بمخرجاته العلمية المتميزة، رغم أنه لم يكن يمتلك داخلية خاصة. ذلك التعدد في المؤسسات التعليمية، جعل من الكريمت مركزًا علميًا يقصده الطلاب من مختلف الجهات، في وقتٍ كانت فيه المدارس المتوسطة نادرة في المنطقة.

التعدد والتعايش.. لوحة من أعراق السودان

الكريمت، رغم صغر مساحتها، كانت ولا تزال نموذجًا للتنوع الإثني والاجتماعي في السودان. يقطنها خليط من الأعراق، إلا أن الغالبية من قبيلة العركيين، الذين التصق اسم القرية بهم حتى باتت تعرف بـ»كريمت العركيين».

لكن ما يميزها أكثر هو روح التعايش والتسامح التي جمعت بين أهلها، فلا يُفرَّق بين وافدٍ ومقيم، ولا بين ابن القرية وابن القرى المجاورة. الجميع يتقاسمون الخبز والماء والمودة، وكأنهم أسرة واحدة. هذه الروح انعكست بوضوح في الحياة اليومية، وفي الطريقة التي استقبلت بها الكريمت أبناءها الطلبة الوافدين.

ديوان الكرم والعلم

من أكثر ما يميز الكريمت هو تقليد الديوان، الذي يمثل القلب النابض للحياة الاجتماعية في القرية. في كل ديوان، تفتح الأبواب بلا قيود، ويُستقبل الضيف كما لو كان من أهل الدار.

ومن أشهر تلك الدواوين ديوان حاج رحمة الله، الذي كان مقصدًا للطلاب من القرى  مثل شكير وعدار والقلعة. 

هناك كان الطلبة يجدون المأوى والطعام، قبل أن يجدوا في وجوه الناس دفء الأهل.

كذلك يُذكر ديوان عبد الله ود حدباي، وعبدالله ود أحمد، والتوم ود عبد الرضي وغيرهم من الرجال الذين ضربوا أروع الأمثلة في الجود والسماحة. هؤلاء لم يكن كرمهم مجرد عادة، بل كان إيمانًا راسخًا بأن إكرام الضيف وإيواء طالب العلم عبادة في حد ذاتها.

الأساتذة الذين صنعوا الأجيال

ولا يمكن الحديث عن الكريمت دون الإشادة بمن حملوا مشعل التعليم فيها. أسماءٌ لا تُنسى تركت بصمةً لا تمحى في ذاكرة طلابها: 

الأستاذ أحمد الزبير، الأستاذ الجمري، الأستاذ عبد الباقي العشاء وغيرهم من المربين الأفاضل، الذين لم يدّخروا جهدًا في سبيل بناء العقول وغرس القيم.

كان التعليم بالنسبة لهم رسالةً مقدسة، لا وظيفة. كانوا آباءً قبل أن يكونوا معلمين، يسهرون من أجل طلابهم، ويغرسون فيهم حب الوطن والانتماء. ومن تحت أيديهم خرجت أجيال كثيرة أسهمت في بناء السودان في مجالات التعليم والإدارة والزراعة والخدمة المدنية.

الكريمت.. منبع القيم والتكافل

ما يميز الكريمت ليس فقط تاريخها التعليمي، بل منظومة القيم التي تربى عليها أهلها. فهي قرية علمت أبناءها معنى التكافل قبل أن يكون شعارًا، والكرم قبل أن يكون واجبًا.

فيها لا يبيت جائع، ولا يُترك ضيف بلا مأوى، ولا يُهان غريب. إنها قرية تسكنها الطيبة في ملامح الناس، والبساطة في حياتهم، والعزة في نفوسهم. لذلك ظلّ اسمها مرتبطًا بالخير والعطاء، وما زال كل من مرّ بها يذكرها بالعرفان.

كلمة الختام

قد تتغير الأيام وتتبدل الأنظمة، لكن تبقى الكريمت كما عرفناها: واحة علم وكرم في قلب الجزيرة، تحرسها الذاكرة بكل الحب، وتزهو بأبنائها الذين حملوا رايتها في شتى ميادين الحياة.

إن الحديث عنها ليس مجرد استعادة لذكريات الماضي، بل توثيق لتاريخٍ حيٍّ صنعه أناس بسطاء آمنوا بأن النهضة تبدأ من التعليم، وأن القيم لا تورّث بالكلمات بل بالمواقف.

فلتحيَ الكريمت  ولتبقَ رمزًا خالداً في ذاكرة الوطن،

الآن الكريمت محلية، ولكن أكتب عن الماضي عندما كانت قريةً جمعت بين أصالة الريف وضياء العلم، وبين سماحة الناس وعمق الانتماء.

 

شارك المقال

2 thoughts on “ الكريمت صنعت المجد بالعلم والكرم

    1. الأخ الصديق الأستاذ الشاعر / يوسف عبد الرضي.. مما يسر البال أنك من ( ود المنسي) وتطرق في كتاباتك الكثير مما هو ( منسي) فتنعش الذواكر وتسعد القلوب وتستحث الهمم ليرتقي الجميع إلى مصاف قمم التعامل الإنساني الذي يستصحب الماضي الزاهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *