الشفافية: ترياق التعافي من الفساد

57
د. حاتم محمود عبدالرازق

د. حاتم محمود عبدالرازق

لواء شرطة متقاعد - محام ومستشار قانوني

• في وقت تتكالب فيه التحديات على السودان، وتمتد أيادي الفساد لتقوّض ما تبقى من مؤسسات الدولة، وتُقصي الكفاءات لحساب المحسوبية والولاءات الضيقة، تبرز الشفافية لا بوصفها مطلبًا إداريًا فحسب، بل كقيمة أخلاقية، وفريضة دينية، وآلية إنقاذ وطني لا غنى عنها.

ماهية الشفافية

الشفافية لغةً مأخوذة من «الشفّ»، وهو البيان والإظهار. وتدل اصطلاحًا على الانفتاح والوضوح في التعامل مع الشأن العام، وتوفير المعلومات الدقيقة في الوقت المناسب، بما يُمكّن المواطن من الاطلاع والمساءلة والمشاركة الواعية. 

إنها ضد الإخفاء والغموض، وتُعد من دعائم الحكم الرشيد، وأحد أبرز مؤشرات النزاهة في الإدارة الحديثة.

الشفافية في ميزان الشريعة الإسلامية

ديننا الحنيف سبق النظم الحديثة في الدعوة إلى الشفافية، إذ حثّ على الصدق، والأمانة، وتحمّل المسؤولية، والنزاهة في التصرف بالمال العام. وقد تجلى ذلك في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين من بعده.

فعندما تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة، قال في خطبته الأولى: «أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيتُه فلا طاعة لي عليكم.» فيها إقرار بمبدأ المساءلة، وربطٌ واضح بين السلطة والشرعية الأخلاقية.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يواجه الناس بشأن نصيبه من الغنيمة: بيّن لهم مصدر ردائه الزائد، تطبيقًا لمبدأ الشفافية في المال العام.

ويقول الله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّواْ الأمانات إِلَىٰٓ أَهلِهَا [النساء: 58]، وفيها تأكيد على أمانة المسؤولية، ومنها أمانة الإفصاح والوضوح، لا الكتمان والخداع.

مقتضيات الشفافية

الشفافية لا تقوم على المجاملة أو الشعارات، بل على أسس راسخة، منها:

1. تشريعات واضحة تفرض الإفصاح عن البيانات والتقارير والقرارات.

2. أجهزة رقابية مستقلة تتمتع بالصلاحيات الكاملة دون تدخل سياسي.

3. صحافة حرة نزيهة تمارس دورها كعين يقظة على أداء المسؤولين.

4. مساءلة حقيقية تضع الجميع تحت طائلة القانون دون تمييز.

5. إرادة سياسية صادقة تضع مصلحة الوطن فوق الحسابات الضيقة.

لكن كل ذلك لن يثمر ما لم تتحول الشفافية إلى سلوك متجذر في الفرد والمجتمع. فهي تبدأ من البيت، حيث ينشأ الطفل على قيم العدل والصدق والنزاهة، ويجد في والديه قدوة عملية، ثم تمتد إلى المدرسة، حيث يتعلم في المناهج الدراسية معنى الحقوق والواجبات، وكيفية المطالبة بها إن انتُهكت، وماذا يفعل إزاء الممارسات الفاسدة. فالمعلم في المدرسة كما الوالد في المنزل، كلاهما يغرس في الناشئة أن المنصب أمانة لا غنيمة، وأن الشفافية ليست ترفًا بل واجبًا يوميًا.

فوائد الشفافية

استعادة ثقة المواطن في مؤسسات الدولة.

تجفيف منابع الفساد المالي والإداري.

رفع كفاءة الأداء الحكومي والوظيفي.

جذب الاستثمارات عبر بيئة قانونية واضحة.

ترسيخ مبدأ العدالة والمساواة بين المواطنين.

مآلات غياب الشفافية

حين تغيب الشفافية، يحل محلها التعتيم، ويُحجب الحق، وتتسلل الرشوة، وتُحتكر السلطة، ويصبح المنصب غنيمة لا أمانة. ويعم الشعور بالظلم، وتنهار الثقة في النظام، ويضيع الأمل في الإصلاح، فتتولد موجات الهجرة والانقسام والعنف، وتُفتح أبواب الاستبداد على مصاريعها.

أين نحن من الشفافية في السودان؟

للأسف، يأتي السودان في ذيل مؤشرات الشفافية الدولية، وذلك نتيجة تراكمات طويلة من الحوكمة المختلة، وغياب المساءلة، وانعدام الإرادة السياسية للإصلاح. فلا تزال التعيينات تخضع للولاء لا للكفاءة، ولا تزال المعلومات حول المال العام تُدار في الظل وتُحاصر مؤسسات الرقابة.

والأخطر أن الفساد لم يعد استثناءً، بل صار نهجًا مؤسسًا وشبكة متغلغلة في كل مفاصل الدولة، تقاوم الإصلاح وتحتمي من الشفافية لأنها النور الذي يفضحها. حتى أصبح بعض المديرين في المؤسسات يمارسون الفساد علنًا، فيصادرون الحقوق دون أن يجرؤ الموظفون على مواجهتهم، إمّا خوفًا من بطشهم، أو جهلًا بحقوقهم، أو انتظارًا لدورهم في ممارسة السلوك ذاته. وهكذا يُعاد إنتاج الفساد جيلًا بعد جيل، ما لم نغرس ثقافة الشفافية مبكرًا في التنشئة والتعليم والسلوك المجتمعي.

ما الذي يجب علينا فعله لتحقيق الشفافية؟

1. إصدار قانون ملزم لحرية الحصول على المعلومات، مع آلية تنفيذ فعالة.

2. إعادة بناء مؤسسات الرقابة والمحاسبة، وتطهيرها من التسييس والتواطؤ.

3. تفعيل الحكومة الإلكترونية للحد من التدخلات الشخصية والفساد الإداري.

4. ضمان استقلالية الصحافة وعدم استخدامها كسلاح للتشهير أو التلميع.

5. ترسيخ ثقافة الشفافية في المناهج التعليمية والإعلام والخطاب الديني.

كيف نحافظ على الشفافية؟

الشفافية ليست قرارًا إداريًا يُتخذ مرة واحدة، بل هي ثقافة وسلوك، تحتاج إلى حماية وتشجيع دائمين. يجب أن تُبنى على قاعدة من المشاركة المجتمعية، وتُربط بمبدأ الثواب والعقاب، وتُصان من تغوّل السلطة وتغييب الضمير. وعلى المجتمع أن يكون رقيبًا لا متفرجًا، وعلى الدولة أن تعتبر الوضوح واجبًا لا مِنّة.

ختامًا

في زمن تُدار فيه الحروب وتُقايض فيه القيم بالمصالح، نحتاج إلى الشفافية كما يحتاج الغريق إلى طوق النجاة. إنها النور الذي يُبدد ظلمة الفساد، والجسر الذي نَعبر به من الفوضى إلى الدولة، ومن الإحباط إلى الأمل. وإذا كان الفساد قد أصبح منهجًا، فلا سبيل لكسره إلا بمنهج مضاد، عنوانه الشفافية، وروحه الأمانة، وأداته المساءلة.

ولنتذكر أن الله سائِلٌ كل مسؤول: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْـُٔولُونَ) [الصافات: 24].

فمن خاف الله، صدق مع الناس، وكان شفافًا في القول والفعل، وعدّ المنصب أمانة لا مكسبًا.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *