

محمد نجيب محمد علي
المشرف على صفحات النبض الإبداعي (فويس)
• الشاعر النور عثمان أبكر «1938- 2009» شاعر كبير ، لعب دورا مهما في الحراك الثقافي السوداني منذ الستينات حتي أواسط السبعينات ، وعندما هاجر بعدها إلي الدوحة لم تتوقف جهوده الثقافية والإبداعية في هذه الحدود ، بل عمل محررا ثقافيا بمجلة الدوحة التي كان يرأسها وقتذاك الدكتور إبراهيم الشوش . وكان النور منفتحا علي فكر الحداثة ، خاصة وأنه شهد حراك هذا الفكر عندما كان مهاجرا في المانيا . وتعرف علي الأدب الألماني في أصوله الكلاسيكية ، فعرف الروائي هيرمان هسة ، وجنتر جراس فيما بعد ، كما تعرف علي الفلسفة الوجودية عند مارتن هيدجر ، ونظر في هوسرل وقرأ الرومانتية الألمانية ، وبذا إستطاع أن يقرأ الفلسفة الوجودية التي ظهرت علي يد الفرنسي جان بول سارتر، وبرع هو وصديقه الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم الذي كان يشاركه السكن فتعرفا علي الأدب الوجودي وقتذاك ، وكان ذلك في مطلع الستينات حيث ذهبا بعد التخرج من جامعة الخرطوم إلي المانيا ثم عادا . وكانت هذه الفترة من المؤثرات العميقة علي فكر وأدب النور عثمان أبكر ، وظهرت هذه التأثيرات في دواوين « صحو الكلمات المنسية « و» غناء للعشب والزهرة « ، وأخذ النور وأصدقاؤه يتشاركون التفكير في مسألة « الغابة والصحراء « وكان هؤلاء الأصدقاء هم محمد عبد الحي ويوسف عايدابي ومحمد المكي إبراهيم ، وقد ذكر محمد المكي إبراهيم في حوارات معه أن الغابة والصحراء هي فكرة من الأفكار التي طرحها النور عثمان أبكر ، ثم إشتركوا أربعتهم في الوصول بها إلي صورتها التي وصلت إلي الناس . ويبدو أن الخلاف بين محمد عبد الحي والنور كان علي من هو صاحب الفكرة أساسا . ودار بعدها الحوار المشهور ما بين النور والشاعر صلاح أحمد إبراهيم حول العروبة والإفريقية فجاء مقال النور الذي خاطب فيه صلاح بعنوان « أنا عربي ولكن « وكان صلاح يقول « نحن عرب العرب « ، وبعدها أخذ النور يتابع الحراك الثفافي وعمل مشرفا ثقافيا علي الصفحة الثقافية بجريدة الرأي العام وقدم الكثير من الأقلام خاصة في مجال القصة القصيرة من الشباب أشهرهم محجوب الشعراني ، وشارك في الحياة المسرحية بترجمة « الأسد والجوهرة « لسوينكا ، وشارك أيضا في مؤتمر الرواية الأول في بداية السبعينات بورقة مهمة حول الرواية السودانية .وكان النور من أكثر المبدعين والمفكرين حيوية ونشاطا وجدية في العمل الثقافي العام وساهم وشارك في تجمع « أبادماك « والذي كان له فيه نصيب الأسد ، وإنقطعت علاقته به بعد إنقلاب هاشم العطا وندوة الأربعاء الشهيرة وجاءت بعدها هجرته إلي دولة قطر.

كانت للنور صداقة وعلاقة مميزة مع الشاعر الراحل محمد المهدي مجذوب إذ كان يعتبر نفسه تلميذا له، وكانت له أيضا مشاركاته في الندوة الأدبية بأمدرمان التي تعقد في منزل عبد الله خامد الأمين وإستمع فيها للمطرب عثمان حسين ولعثمان الحويج والتقي فيها بالطيب صالح الذي إنضم للندوة لمدة شهور قليلة . وللنور تلاميذه من الشعراء منهم عالم عباس وحسن أبو كدوك ومحمد محمد خير»كثيرا ما كنت أرافق محمد محمد خير لزيارة النور بمنزله بالصافية « . كانت للنور علاقات واسعة جدا بالوسط الثقافي وكلمته مسموعة في داخل الإطار الإجتماعي التي تشوبه الصداقات والأخوة الصادقة . وكان يكتب النقد ، وكان جارحا في نقده في بعض الأحيان .
وللنور ترجمات كثيرة من أهم اصدارته الأحيرة ترجمته للجزء الخاص بدارفور ورحلة جوستاف باختيبال وأيضا رحلة الرحالة الألماني بريم للسودان .
كان النور محبا للقراءة وإقتناء الكتب وجامعا لأهم الإصدارات التي تصدر بالعربية والأفرنجية فتكونت له مكتبة ضخمة بشكل لا يصدق ، وهي المكتبة التي جعلتها أسرته مكتبة مفتوحة للباحثين والقراء لتكون صدقة جارية علي روحه كما قالت لي إبنته إيزيس ، وأصبحت من أكبر مكاتب الثقافة في السودان في الخرطوم بحري إذ تحتوي علي أكثر من سبعة ألف عنوان في ضروب الثقافة والإبداع المختلفة، وكان النور قد عمل لفترة طويلة حتي أخريات أيامه مترجما في الديوان الملكي بدولة قطر .
أوراق من حياة الشاعر
تقول زوجته الألمانية « مارجريت عثمان وهي تقلب في صفحات «ألبوم» يرسم ذكرياتهما ، أنها إلتقت بالنور لأول مرة في شارع في إحدي كافتيريات ميونخ في ستينيات القرن الماضي ،إذ جمع بينهما صديق مشترك دون وعد ، وكان أن طلب النور موعدا للقاء آخر ، وفي ذاك اللقاء أهدته كتاب « الشعراء الألمان « لريلكة ، وأهداها سيمفونية لبتهوفن وطلب منها الزواج .وكان ميلاد «إيزيس « أكبر بناته هناك، كان يريد إسم عيد الرحمن علي خاله إن جاء ولد.
وتضيف « مارجريت « قبل رحيله بشهر واحد كنت في رحلة من قطر للخرطوم، وكان النور يشكو من دوار يصيبه. في المطار طلبت منه أن يعاود الطبيب ، وعدني بذلك . وحين وصولي للخرطوم إتصلت به وسألته إن كان قد ذهب للطبيب قال لي لم أذهب للطبيب ولكني ذهبت إلي معرض الكتاب وإشتريت كتبا ، الكتب هي العلاج والدواء . كان الكتاب هو حياة النور ، في بيتنا في قطر كانت كل الغرف تمتليء برفوف الكتب لم تسلم غرفة من ذلك .. كان النور كثيرا ما يقول أنا لدي كتب كثيرة ماذا سيكون مصيرها ماذا سأفعل ؟
و لم يترك النور وصية ، ولكنني رأيت أن تكون هنا مكتبة تحمل إسمه تخليدا لذكراه ، وليستفيد منها الآخرون ، فلقد كان له في منزلنا بالصافية صالون كامل مليء بالكتب بجانب الكتب الكثيرة التي أحضرناها من الدوحة . إستغرق منا ترتيب المكتبة وفهرستها وقتا طويلا أعاننا فيه الأستاذ محمد عبد القادر من المكتبة الوطنية ولا نزال نعمل فيما تبقي ونحن نعتمد علي الجهد الذاتي .

آثار باقية
وتقول إيزيس النور إبنته الكبري وهي فناة تشكيلية أن والدها ترك الكثير من المخطوطات والكتابات التي لم تر النور بعد ، فهي قد وجدت أكثر من ستين قصيدة له ، بعضها كان في بطن الكتب وأغلب هذه القصائد كتبت في الدوحة في الألفينات وبعضها في التسعينات أيضا ، وجمعتها وسلمتها للشاعرين كمال الجزولي وعالم عباس اللذين قاما بمراجعتها واصدارها بحكم صداقتهما للوالد ، لأن والدها كان من عادته أن يزيل قصائده بتاريخ كتابتها ، وقد وجدت بعض القصائد بدون تاريخ ،كما أنها وجدت الكثير من كتاباته في القصة القصيرة بجانب ترجمات له لم تر النور ، وتضيف «إيزيس « أنها عثرت بين أوراقه علي مجموعة كبيرة من الرسائل من الطيب صالح ومحمد المهدي مجذوب وإبراهيم الصلحي وعلي المك وآخرين .وتقول إيزيس أن والدها عليه رحمة الله كان يبدأ يومه بالقراءة قبل تناول القهوة وذهابه للعمل وحين يعود كان أيضا يواصل القراءة أو يكتب قبل الغداء وفي المساء يكون في ذات الحال ، وأهم ما كان يحرص عليه أن يستمع للموسيقي وهو يقرأ أو يكتب ، كان يحب موسيقي الجاز كثيرا ، وقد ترك مكتبة موسيقية تحتوي علي شرائط ريل وإسطوانات عالمية وأعمال لفنانين سودانيين منهم خضر بشير وأبوداؤود وزيدان ومحمد الأمين ،وتضيف إيزيس أن والدها كان يجيد الإنجليزية والألمانية قراءة وكتابة وتحدثا ، وأن في مكتبته كتب بالألمانية إحضرها من المانيا حين كان هناك وبعض هذه الكتب كانت هدايا له من أمي .وتحكي عن والدها أنه كان عاشقا للعبة «الباسكت بول» التي مارسها زمنا طويلا من شبابه .وتقول من بين ما وجدته في وسط أحد الكتب مطلع قصيدة تقول :
داهمني الحنين لحظة
ولحظة صرعت عند بابك المكين
وهو مكتوب بخط يده علي ورقة من أوراق مؤتمر العرب العاشر بالجزائر الذي إنعقد عام 1975 ، وجدت هذه الورقة داخل كتاب شعر . وعن آخر قصيدة كتبها النور تقول إيزيس هي يقصيدة كتبها عن أمي بتاريخ 12/ 11 / 2008قبل رحيله بقليل وهي لم تنشر من قبل
القصيدة الأخيرة
أحبك أو لا أحبك
أنت التي جمعت في خيالي المُعنى
حقيقة أني
غريب بأرض الغرام الوريف
لسني
أفى آخر الطرقات المريعة
أهفو
لبيضة خدر
أسوق المغني
أيا زهرة في فضاء التمني
تبارك ذاك الذي يستطيب خباك
ويحمل في صدره من رؤاك
مودة شعبين تنتظم العالمين .
وتقول إيزيس رحل والدي في قطر التي أمضي بها ثلاثين عاما ، وإفتقده القطريون وهم أيضا أهله ودفن هناك بينهم .
وتضيف ايزيس ان الجنجويد عاثوا بعثرة وخرابا فى المكتبة وتاكيدا جزء من ارشيف الوالد قد لحقته ايادي الخراب كما بلغنا ولكن اغلب كتب المكتبة ما تزال موجودة ..وسنعمل على اعادتها من جديد ان شاء الله.
شارك المقال