
أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
منذ استقلال السودان في عام 1956، ظلّ البلد يتأرجح بين أحلام التحرر الوطني وكوابيس الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية. كل جيلٍ جاء بعد الاستقلال كان يحمل أملًا في التغيير، لكنه غالبًا ما اصطدم بواقع سياسي هشّ واقتصاد متآكل ومؤسسات منهارة. ومع ذلك، فإن جذوة الحياة لم تنطفئ. فكل أزمة كانت تُنبت في الوجدان السوداني أسئلة عن المستقبل، وكل دمار كان يدفع العقول الطموحة إلى ابتكار طرق جديدة للبقاء والتجدد.
اليوم، وبعد عقود من الانكسارات، يقف السودان أمام مفترق طرق حاسم: إما أن يكرر أخطاء الماضي ويُعيد تدوير منظومة الفشل نفسها، أو أن يتبنى رؤية جديدة تُعيد تعريف العلاقة بين العقل والاقتصاد، بين الابتكار والبناء، بين الفرد والوطن.
ليس المطلوب إعادة ترميم ما تهدّم، بل إعادة تصميمه من الأساس — أي الانتقال من الهدم القسري الذي فُرض علينا بفعل الحرب، إلى الهدم الخلّاق الذي نختاره بوعي لنصنع منه مستقبلًا مختلفًا.
هذا التحول ليس شعارًا نظريًا، بل هو فلسفة اقتصادية متكاملة تُغيّر طريقة فهمنا للنمو والنهضة والعدالة.
من الدمار إلى التجديد: فهم مفهوم الهدم الخلّاق
صاغ الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر مفهوم “الهدم الخلّاق ” (Creative Destruction) ليصف العملية التي تدمّر فيها الابتكارات القديمة لتُفسح المجال للجديدة. فالتطور الاقتصادي لا يحدث بالتراكم البطيء فحسب، بل من خلال الانفجارات المعرفية التي تغيّر قواعد الإنتاج والتفكير. فكل موجة ابتكار – من المحرك البخاري إلى الذكاء الاصطناعي – أعادت ترتيب القوى الاقتصادية وأجبرت العالم على التكيّف مع واقع جديد.
وقد أكدت جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية لعام 2025 أهمية هذا المفهوم عندما مُنحت للباحثين بيتر هوويت وفيليب أجيون، وجويل موكير، تقديرًا لأبحاثهم حول تأثير الابتكار على النمو الاقتصادي، وكيف أن التقنيات الجديدة تحلّ محل القديمة. ويمثل هؤلاء العلماء ثلاثة مسارات متكاملة في دراسة الاقتصاد: فـموكير مؤرخ اقتصادي تتبع جذور التغيير عبر العصور، بينما استخدم هوويت وأجيون النماذج الرياضية لشرح كيف يعمل “الهدم الخلّاق” كآلية طبيعية لتجديد الاقتصادات المعاصرة.
إن هذا المفهوم لا يخص الاقتصادات الغنية وحدها، بل ينطبق بعمق على بلدانٍ مثل السودان، التي تعيش في حالة “هدم قسري” مستمر منذ عقود، بسبب الانقلابات والحروب والانقسامات. غير أن هذا الهدم لم يكن “خلّاقًا”، لأنه لم يُنتج مؤسسات بديلة أو نظمًا أكثر كفاءة. لقد انهار القديم دون أن يولد الجديد. وهنا تكمن المعضلة والفرصة في آن واحد.
فـ»الهدم الخلّاق» في السياق السوداني لا يعني محو كل ما كان، بل تحويل الركام إلى أرض خصبة للتجديد. فالمجتمعات الخارجة من الصراعات تمتلك عادةً طاقة كامنة للتغيير، لأنها تعي حجم ما خسرته. ومن هذه النقطة يمكن للسودان أن يبدأ: بتحويل الدمار إلى تصميم، واليأس إلى دافع.
مثلاً، يمكن أن يتحول انهيار المؤسسات القديمة إلى فرصة لبناء مؤسسات رقمية حديثة أكثر شفافية واستقلالًا. ويمكن أن تصبح المناطق المدمّرة مختبرات لسياسات تنمية جديدة تراعي الإنسان والبيئة.
كما أن “الهدم الخلّاق” لا يقتصر على الاقتصاد المادي، بل يمتد إلى الهياكل الثقافية والفكرية. فالمجتمع السوداني يحتاج إلى تفكيك البنى الذهنية التي كرّست الفساد والقبلية والانقسام، وبناء ثقافة إنتاج ومعرفة جديدة.
فإذا كانت الأمم تنهض حين تستبدل الأدوات القديمة بالجديدة، فإن السودان يمكن أن ينهض حين يستبدل أنماط التفكير القديمة بعقلية الابتكار والتجريب.
في جوهره، «الهدم الخلّاق» دعوة إلى إعادة اكتشاف الذات الوطنية من منظور علمي وعملي.
فكما بيّن هوويت وأجيون، فإن الابتكار لا يحدث في فراغ، بل يحتاج إلى بيئة تحفّز المخاطرة، وتسامح الفشل، وتشجع على التجريب.
وفي السودان، يمكن أن يبدأ هذا من الجامعات والمختبرات، ومن مبادرات الشباب في التكنولوجيا والبيئة والتعليم، حيث يوجد بالفعل حراك خفي من الإبداع رغم الحرب والتهجير.
إن السودان لا ينقصه الذكاء أو الموارد، بل ينقصه تحويل الأزمات إلى مختبرات للابتكار.
فحين نفهم “الهدم الخلّاق” بهذا المعنى، ندرك أن الخلاص لا يأتي من العودة إلى ما كان، بل من بناء ما لم يكن — وطن حديث ينبثق من ركام القديم، كما تنبثق الحياة من رماد الحرائق.
بناء اقتصاد المعرفة: لاستثمار في العقول قبل الموارد
في القرن الحادي والعشرين، أصبحت المعرفة هي رأس المال الحقيقي.
فالثروات الطبيعية قد تنضب أو تُنهب، لكن العقل البشري القادر على الابتكار هو المورد الوحيد الذي يزداد كلما استُثمر فيه.
وللسودان فرصة تاريخية لأن يعيد ترتيب أولوياته عبر بناء نظام وطني للابتكار يشمل:
1. تحويل الجامعات إلى مراكز للبحث التطبيقي وريادة الأعمال بدل الاقتصار على التلقين الأكاديمي.
2. تحفيز الابتكار المحلي في مجالات الزراعة، الطاقة، والصحة العامة.
3. ربط البحث العلمي بالقطاع الإنتاجي، بحيث يصبح كل بحثٍ مشروعًا اقتصاديًا محتملًا.
4. تأسيس صندوق وطني للابتكار يدعم أفكار الشباب والمبدعين في كل الولايات.
فبهذه الخطوات يمكن أن يتحول التعليم من عبء على الدولة إلى قوة منتجة تخلق الثروة وتعيد بناء المجتمع.
الزراعة الذكية كركيزة للنمو المستدام
السودان بلد زراعي بامتياز، لكنه لم ينجح بعد في جعل الزراعة عماد اقتصاده الحديث.
إن استخدام التقنيات الذكية في الزراعة يمكن أن يفتح أبوابًا واسعة للنمو عبر:
• أنظمة ري تعتمد على الاستشعار عن بُعد لتقليل الهدر في المياه.
• تحليل التربة والمحاصيل بالذكاء الاصطناعي لتحسين الإنتاجية.
• تحويل المخلفات الزراعية إلى طاقة أو أسمدة.
• إنشاء تطبيقات ذكية تربط المزارعين بالأسواق مباشرة.
هذه الحلول ليست خيالية، بل واقعية ومنخفضة التكلفة، وتستطيع أن تغيّر وجه الريف السوداني وأن تخلق اقتصادًا أخضر مستدامًا.
الاقتصاد الرقمي وريادة الشباب
الشباب السوداني، رغم الإحباطات المتكررة، يمتلك أكبر طاقة إبداعية في القارة.
إن تمكينهم من أدوات العصر — الحوسبة السحابية، البرمجة، العمل الحر، الذكاء الاصطناعي — يمكن أن يحوّلهم من مهاجرين بلا أفق إلى روّاد تغيير رقمي.
الاقتصاد الرقمي لا يحتاج إلى مصانع ضخمة ولا إلى رأس مال كبير، بل إلى فكرة ومهارة واتصال بالإنترنت.
لذلك، فإن إنشاء حاضنات أعمال رقمية في الجامعات ومراكز المدن، وتبني سياسات تدعم المدفوعات الإلكترونية والمشاريع الريادية، هو السبيل لتحويل الإبداع الفردي إلى قوة اقتصادية وطنية.
تسخير طاقات السودانيين في المهجر
يعيش مئات الآلاف من العلماء والمهندسين السودانيين في المهجر، وهم يمثلون كنزًا وطنيًا من الخبرات.
لكن هذه الكفاءات تبقى غالبًا معزولة عن الداخل بسبب ضعف المؤسسات والاتصال.
يمكن للسودان أن يبني نموذجًا جديدًا للتعاون عبر:
• منصات رقمية للبحث والابتكار المشترك بين الداخل والشتات.
• صناديق استثمار للمغتربين تموّل مشاريع تنموية في التعليم والصحة والطاقة.
• شراكات علمية بين الجامعات السودانية ونظيراتها في كندا وأوروبا والخليج.
بهذا يتحول الاغتراب من هجرة أدمغة إلى جسر معرفة وتنمية.
الشفافية والحوكمة الرقمية: القضاء على الفساد بالذكاء لا بالقوانين
الابتكار لا يزدهر في بيئة فاسدة.
لكن التكنولوجيا يمكن أن تكون سلاحًا فعالًا ضد الفساد عبر الحكومة الإلكترونية، التي تتيح الشفافية والرقابة في الوقت الحقيقي.
عندما تصبح المعاملات رقمية ومفتوحة، تنخفض الرشاوى، وتتقلص البيروقراطية، وتزداد ثقة المواطن في الدولة.
بهذا المعنى، فإن التحول الرقمي هو إصلاح سياسي بقدر ما هو تحديث إداري.
تحويل الألم إلى طاقة إبداع: الابتكار الاجتماعي
الحروب الطويلة خلّفت مجتمعًا مثقلًا بالصدمات والنزوح والفقر، لكن في قلب هذه المأساة يكمن إمكانيات هائلة للابتكار الاجتماعي.
يمكن للشباب ومنظمات المجتمع المدني أن يحولوا الألم إلى طاقة بناء من خلال مشاريع صغيرة في التعليم والصحة النفسية وإعادة الإعمار المجتمعي.
إن الإبداع في هذه المجالات لا يقل أهمية عن الابتكار التقني، لأنه يبني الإنسان قبل الاقتصاد.
نحو رؤية وطنية للابتكار
لكي لا تبقى المبادرات متناثرة، يجب تبنّي إستراتيجية وطنية للابتكار تستند إلى رؤية واضحة للعدالة والتنمية المستدامة.
ينبغي أن تشارك فيها الدولة والقطاع الخاص والجامعات والمجتمع المدني بشكل متكامل، بحيث يصبح الابتكار سياسة دولة لا مجرد مبادرات فردية.
هذه الرؤية يجب أن تُترجم إلى خطط واقعية:
• ربط التعليم بسوق العمل.
• تمويل الشركات الناشئة.
• تحفيز القطاع الخاص للاستثمار في البحث العلمي.
• توطين التكنولوجيا بما يتناسب مع حاجات المجتمع السوداني وثقافته.
السودان بين الماضي والمستقبل
ليست النهضة التي نبحث عنها في السودان مسألة استيراد نماذج أو تقليد تجارب، بل قدرة على ابتكار طريقنا الخاص وسط الركام.
فالبلد الذي جرّب كل أشكال الحكم، يحتاج اليوم إلى أن يجرّب شيئًا واحدًا لم يفعله من قبل: الثقة في العقول.
الهدم الخلّاق ليس هدمًا للماضي، بل عبورٌ منه نحو الممكن.
إنه إدراكٌ بأن بناء المؤسسات الحديثة لا يبدأ من القصور الحكومية، بل من العقل العلمي الذي يحوّل الأزمة إلى مشروع، والندرة إلى فرصة.
فحين يصبح الابتكار أسلوب حياة لا شعارًا مؤقتًا، يمكن للسودان أن ينتقل من اقتصاد البقاء إلى اقتصاد الإبداع والإنتاج.
لقد دفع السودانيون ثمن الحروب غاليًا، لكن التاريخ يمنحهم الآن فرصةً نادرة ليحوّلوا المعاناة إلى معرفة، والشتات إلى شبكة طاقاتٍ متصلة بالعالم.
ذلك هو جوهر “الهدم الخلّاق”: أن نصنع من هشيم الواقع بذور المستقبل، وأن نجعل من العقل والعمل المشترك أساس قيام وطنٍ لا يُعاد بناؤه كما كان، بل يُولد من جديد على وعيٍ أعمق وأفقٍ أوسع.
شارك المقال