السودان في مرآة الاقتصاد: قراءة شاملة في تقرير البنك الدولي مايو 2025
Admin 14 يونيو، 2025 36
محمد كمير
كاتب صحفي
• بينما تمضي الحياة اليومية للسودانيين بين تحديات النزوح والغلاء وانعدام الأمن والخدمات، يأتي تقرير البنك الدولي الصادر في مايو 2025 ليضع صورة بانورامية دقيقة للواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي تمر به البلاد، وليرسم خارطة تفصيلية للآثار العميقة للحرب التي اندلعت في أبريل 2023، ويقترح مسارات ممكنة للتعافي. هذا التقرير الذي يحمل عنوان «العواقب الاقتصادية والاجتماعية للنزاع: رسم مسار للتعافي» يُعد من أكثر الوثائق اكتمالاً في توصيف المرحلة، ويستحق أن يُقرأ بتمعن لفهم ما حدث، وما هو قادم.
يفتتح التقرير برصد الكلفة البشرية للنزاع، حيث أُزهقت أكثر من 61 ألف روح في ولاية الخرطوم وحدها خلال عام واحد فقط من اندلاع الصراع، بينما نزح نحو 12.9 مليون شخص، منهم 8.9 مليون داخل البلاد وقرابة 4 ملايين لجأوا إلى دول الجوار مثل مصر وتشاد وجنوب السودان. يشير التقرير إلى أن السودان يعيش أكبر أزمة نزوح على مستوى العالم حالياً، في وقت تواجه فيه البلاد تحديات متداخلة من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، حيث بلغت نسبة سوء التغذية الحاد 13.6%، وهي من الأعلى عالمياً، بجانب تفشي أمراض مثل الكوليرا والملاريا وحمى الضنك، لا سيما في أوساط الأطفال دون سن الخامسة.
على المستوى الاقتصادي، سجل الناتج المحلي الإجمالي انكماشاً حاداً بنسبة 29.4% في عام 2023، تلاه تراجع إضافي بنسبة 13.5% في عام 2024. هذه الأرقام تعني عملياً أن الاقتصاد السوداني عاد سنوات إلى الوراء، ولن يتمكن من العودة إلى مستواه ما قبل الحرب قبل عام 2031، حتى في ظل السلام الكامل وتنفيذ إصلاحات واسعة. ويظهر في التقرير أن تأثير الحرب لم يكن سطحياً، بل طال كل قطاعات الإنتاج والخدمات، خصوصاً تلك التي تتركز في الخرطوم؛ مثل التعليم والصحة والاتصالات والأنشطة التجارية، وقد تضررت أيضاً القطاعات الصناعية، بسبب تدمير المصانع والبنية التحتية، وتعطل سلاسل الإمداد.
من ناحية المؤشرات النقدية، بلغت نسبة التضخم في عام 2024 نحو 170%، بعد أن كانت 66% في 2023، مدفوعة بارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية والسكن والنقل، وهو ما يعيشه المواطن السوداني يومياً حين يواجه أسعاراً مضاعفة في الأسواق، وتكاليف معيشة باتت خارج قدرات معظم الأسر. ويبين التقرير أن الانفلات في سوق الصرف ساهم في هذه الأزمة، حيث تراجعت قيمة الجنيه السوداني الرسمي إلى 1,994 للدولار في نهاية 2024، في حين بلغ سعر السوق الموازية 2,550، ووصل في مارس 2025 إلى 2,679 جنيهاً مقابل الدولار في بعض الأسواق، رغم جهود البنك المركزي في إعادة الاستقرار.
أما البطالة، فقد ارتفعت من 32% في 2022 إلى 47% في 2024، وفقاً للتقرير، وهو رقم يعكس انهيار سوق العمل، بعد إغلاق آلاف المؤسسات، وتوقف النشاط الاقتصادي في عدد كبير من المدن، مما أدى إلى تراجع فرص العمل خاصة في القطاع الرسمي. ويشير التقرير إلى أن نسبة العمالة المستقرة تراجعت من 33% إلى 16% فقط، ما يعني أن معظم من تبقى من القوى العاملة باتوا يعملون في وظائف مؤقتة أو في الاقتصاد غير الرسمي.
تطرق التقرير كذلك إلى تدهور الأوضاع المالية العامة، حيث انخفضت إيرادات الدولة إلى أقل من 5% من الناتج المحلي في 2024، بعد أن كانت 10% في 2022. وبسبب هذا الانخفاض الكبير، تقلصت قدرة الحكومة على الإنفاق، مما انعكس في ضعف تمويل الخدمات الأساسية وبرامج الدعم، وزاد من اعتماد البلاد على التمويل النقدي (طباعة النقود) الذي يفاقم التضخم. كما أكد التقرير أن الدين العام لا يزال مرتفعاً جداً، وهو ما يحرم السودان من إمكانية الاقتراض لتغطية العجز أو تمويل برامج التعافي.
على مستوى الفقر، يقدم التقرير أرقاماً صادمة، إذ ارتفعت نسبة السكان الذين يعيشون بأقل من 2.15 دولار في اليوم من 33% في عام 2022 إلى 71% في عام 2024. هذا يعني أن سبعة من كل عشرة سودانيين يعيشون الآن تحت خط الفقر الدولي، مع تباينات كبيرة بين المناطق، حيث تسجل ولايات البحر الأحمر وكردفان ودارفور نسباً أعلى من المتوسط. وربط التقرير هذا الواقع بغياب برامج الحماية الاجتماعية، حيث لم يكن سوى 1% من الأسر تتلقى دعماً اجتماعياً منتظماً حتى قبل الحرب، ومعظم هذا الدعم توقف بسبب تعليق التمويل الخارجي.
يركز التقرير بشكل خاص على القطاع الزراعي، الذي يشكل نحو 35% من الناتج المحلي، ويوظف أكثر من 40% من اليد العاملة. ومع أنه أكثر القطاعات مرونة خلال الأزمة؛ نظراً لتمركزه في الأرياف، إلا أنه لم يسلم من الأضرار، حيث تراجعت إنتاجية الحبوب في 2023 بنسبة 46% مقارنة بعام 2022، في ظل النزوح والنهب وتراجع توفر المدخلات الزراعية من بذور ووقود وأسمدة. ومع ذلك، يرى التقرير أن الزراعة يمكن أن تكون بوابة للتعافي، مستنداً إلى التجارب الدولية مثل رواندا وموزمبيق، حيث لعب القطاع الزراعي دوراً محورياً في إعادة بناء الاقتصاد بعد الحرب.
وبحسب التقرير، فإن الاستثمار في الزراعة يمكن أن يوفر فرص عمل، ويقلل الفقر، ويعزز الأمن الغذائي، إذا ما تم تأهيل البنية التحتية، وتقديم التمويل والدعم التقني للمزارعين. ويشير التقرير إلى أن أقل من ربع الأراضي الزراعية الصالحة في السودان يتم استخدامها حالياً، ما يعكس حجم الإمكانات غير المستغلة، خصوصاً في محاصيل ذات ميزة تنافسية؛ مثل السمسم والصمغ العربي والثروة الحيوانية.
يقترح التقرير عدة مسارات لتعافي الاقتصاد، أبرزها استكمال برنامج إعفاء الديون (HIPC)، الذي كان السودان قد وصل إلى نقطة القرار فيه قبل الأحداث الأخيرة، واستئناف الإصلاحات الاقتصادية مثل توحيد سعر الصرف، وترشيد دعم السلع، وزيادة كفاءة إدارة المالية العامة. كما يدعو التقرير إلى توجيه موارد الدولة نحو الصحة والتعليم، وإعادة بناء المؤسسات، وتفعيل الحكم المحلي، وتحقيق مصالحة وطنية شاملة. ويشدد على أهمية معالجة قضية الألغام التي تعرقل العودة إلى المناطق الريفية وتعوق الزراعة والتنمية.
وفي سياق الحديث عن المساعدات الإنسانية، أورد التقرير أن المنظمات الدولية؛ مثل برنامج الغذاء العالمي، تمكنت، رغم الصعوبات، من إيصال مساعدات إلى بعض المناطق مثل معسكر زمزم بدارفور، بعد شهور من انقطاع الدعم، إلا أن ذلك ما زال دون المطلوب، بسبب صعوبات الوصول، ومحدودية التمويل، والانقطاعات الموسمية في الطرق.
يرى التقرير أن السودان لا يزال يمتلك فرصاً حقيقية للنهوض، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والسلام والاستقرار، إلى جانب دعم المجتمع الدولي. ويختم التقرير بتأكيد أن المستقبل ليس مغلقاً، وأن كل المؤشرات السلبية يمكن عكسها تدريجياً عبر التخطيط المدروس، وتحفيز القطاعات الإنتاجية، وبناء عقد اجتماعي جديد، قائم على العدالة والإنصاف والإنتاج.
حين نقرأ هذا التقرير في ظل الواقع الراهن، تبدو الأرقام والحقائق الواردة فيه متطابقة مع ما يعيشه الناس في الأسواق والطرقات والمخيمات والمزارع. إنه تقرير لا يكتفي بوصف الحال، بل يقدم رؤية متكاملة للتعافي. قراءة هذا التقرير ضرورة لكل من يسعى ويحاول لفهم السودان اقتصادياً واجتماعياً اليوم، والتفكير في سودان الغد.
شارك المقال