الراديو… مدرسة الجميع

272
يوسف عبدالرضي2

يوسف عبدالرضي

شاعر وكاتب صحفي.

• «هنا أم درمان… هنا القاهرة…»

بهاتين العبارتين، بدأ وعيُ جيلٍ كامل في السودان والعالم العربي.

جيلٌ تربّى على أصوات لا يرى أصحابها، لكنه كان يشعر بوجودهم القريب كأنهم أهل الدار، وكأن المذياع نافذة تطلّ على الوعي والمعرفة، من داخل غرفة طينية بسيطة في الريف، أو ركن متواضع من المدينة.

نحن أبناء الستينات والسبعينات، جيلٌ تشكّلت ثقافته الأولى من صوت الراديو، قبل أن يرى التلفزيون طريقه إلى القرى، وقبل أن تفيض علينا وسائل التواصل الحديثة.

الراديو كان الوسيط الوحيد الذي جمع بين التثقيف والترفيه والإخبار، وكان بمثابة المدرسة المتنقلة التي لا تعرف حواجز الجغرافيا ولا شرط الدخول.

في كل بيت سوداني، كان هناك مكانٌ مخصص للراديو، وغالبًا ما يُغلّف بقطعة قماش بيضاء، أو يُوضع على رف عالٍ احترامًا لمكانته.

وفي قريتنا، كما في آلاف القرى، كنا نحمل الراديو إلى الحقول، أو نُجلسه بيننا وقت العصر، ونصغي إليه باهتمام.

كنا نحفظ الخريطة البرامجية عن ظهر قلب، ننتظر برنامج «قول على قول» للأستاذ حسن الكرمي، أو نتابع «العلم للجميع» الذي كان يقدمه الدكتور مصطفى محمود من إذاعة صوت العرب، ونحب «حديث الأربعاء» من القاهرة.

أما إذاعة أم درمان، فكانت لنا نحن السودانيين الروح والصوت والهوية.

من خلالها استمعنا لـ «ما يطلبه المستمعون»، و»ركن الأطفال»، و»أوراق الصباح» التي كان يقرؤها الراحل متولي عيد، ذلك الصوت الذي لا يُنسى.

وقد كانت هنا أم درمان محطة لكل الشعراء والفنانين، صوتها يروي الحنين، ويشعل الانتماء.

وإذا أردت أن تختبر ثقافة أحدهم، يكفي أن تدخل معه في نقاش، فإن غلبك بالحُجة، سيعلّق الآخرون ضاحكين:

«دا بسمع لندن!»

في إشارة إلى إذاعة الـ BBC العربية، التي كانت تُبث من لندن وتُعتبر حينها منبر النخبة، ومصدرًا موثوقًا في الأخبار والمواقف.

الراديو لم يكن مجرد وسيلة إعلام، بل كان معلمًا حقيقيًا.

نحن أبناء الريف، لم تكن تصلنا الصحف، ولم يكن التلفاز موجودًا بعد، وكانت الكتب نادرة، والمسارح معدومة.

فجاء الراديو ليملأ هذا الفراغ، ويشكل وعينا السياسي والثقافي والديني.

ومن المظاهر الاجتماعية اللافتة في ذلك الزمن، أن الراديو يُغلق فور إعلان وفاة أحدٍ في القرية،

باستثناء نشرة الساعة الثامنة مساءً، والتي كنا نسميها ساخرين «نشرة الميتين»، حيث يُعاد فتح الراديو خصيصًا لسماعها مهما كان الحزن، لأهمية الأخبار وارتباطها بحياتنا.

وفي أيامنا تلك، لم يكن هنالك اختلاف كبير بين الطبقة المتعلمة وأولئك الذين لا يقرأون ولا يكتبون، فقد كان الراديو يُعادل التعليم، بل ويشكّل لغة وعيٍ موحدة للجميع.

واليوم، ونحن نطرح فكرة «مشروع ثقافي وطني»، علينا أن نعيد النظر في الوسائل التي ساهمت يومًا في بناء إنسانٍ واعٍ وفاعل.

الإذاعة، رغم ما يبدو من بساطتها، ما زالت تحتفظ بقدرتها على الوصول والتأثير، خاصة في المناطق المهمشة، وفي أوساط الناس البسطاء الذين لا يزالون يصغون إلى المذياع في الأسواق، والمزارع، ومواقف المواصلات.

علينا دعم هذا الوسيط الأصيل، وتعزيز محتواه، وتوظيفه من جديد في خدمة الثقافة الوطنية.

فالراديو ليس مجرد تاريخ، بل هو مدرسة للجميع، علينا أن نُعيد لها مكانتها، ونفتح لها الأبواب مجددًا لتربي أجيالًا كما ربّت من قبل.

خاتمة شخصية

كنت في صباي أُصغي للراديو كمن يُصغي لصوت الحقيقة.

أُتابع برامج «الإذاعة المدرسية» و»ركن الأطفال»، وأحاول أن أكرر أصوات المذيعين المشهورين، وأحلم أن أكون مثلهم ذات يوم.

كان الراديو رفيقي في الليل، ونافذتي إلى العالم…

واليوم، أدين له بالكثير.

ومن حقه علينا أن نردّ له الجميل.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *