
محمد كمير
خبير اقتصادي
• الذهب يعيش حالة هيجان غير مسبوقة مع دخول أكتوبر 2025، حيث قفز سعر الأونصة من 2620 دولارًا في بداية العام إلى قرابة 4000 دولار، بزيادة تتجاوز ٤٠% خلال أقل من عام، وهي أكبر طفرة يشهدها المعدن الأصفر منذ أكثر من أربعة عقود. هذا الصعود التاريخي لم يكن مجرد حركة عابرة، بل جاء نتيجة تضافر عوامل سياسية واقتصادية ومالية عالمية، جعلت الذهب الوجهة المفضلة للمستثمرين الذين يبحثون عن الأمان وسط عواصف عدم اليقين.
في الولايات المتحدة لعبت التوترات بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والاحتياطي الفيدرالي دورًا أساسيًا في تأجيج مخاوف الأسواق. محاولات ترامب المستمرة للتأثير في قرارات البنك المركزي وإصراره على خفض أسعار الفائدة قوبلت بمقاومة من الفيدرالي، ما أثار قلق المستثمرين من فقدان البنك استقلاليته، وهو ما دفع الكثيرين إلى الذهب باعتباره الملاذ الأكثر أمانًا.
وفي الوقت ذاته تزايد الطلب المؤسسي على الذهب بصورة غير مسبوقة، إذ استقطبت صناديق المؤشرات المدعومة بالمعدن أكثر من 60 مليار دولار منذ بداية العام، واشترت ما يفوق مئة طن في سبتمبر وحده. أما البنوك المركزية فقد واصلت سياستها في مراكمة الذهب، بشراء أكثر من ألف طن سنويًا لثلاث سنوات متتالية، ليصبح ثاني أكبر أصل في الاحتياطيات العالمية بنسبة عشرين في المئة بعد الدولار.
الأزمات السياسية والاقتصادية في مناطق مختلفة من العالم ساهمت كذلك في دعم الأسعار. إغلاق الحكومة الأمريكية لأول مرة منذ سبع سنوات، واستقالة رئيس وزراء فرنسا بعد أسابيع قليلة من تعيينه، وصعود توقعات باضطرابات سياسية في اليابان، كلها أحداث عززت من جاذبية الذهب مقارنة بالأصول الأخرى التي فقدت جزءًا من ثقة المستثمرين. حتى فلسفة إدارة المحافظ الاستثمارية تغيرت، إذ بدأت مؤسسات مالية كبرى مثل مورجان ستانلي تدعو إلى رفع حصة الذهب إلى عشرين في المئة من المحافظ، وهي نسبة ضخمة لم تكن مطروحة في السابق، ما يعني أن تريليونات الدولارات مرشحة للتدفق نحو المعدن النفيس.
التوقعات المستقبلية تشير إلى أن الذهب قد يصل إلى 4900 دولار للأونصة بنهاية 2026 وفق تقديرات جولدمان ساكس، مع احتمال أن يتجاوز حاجز الخمسة آلاف دولار إذا استمرت المخاطر الجيوسياسية وفقد الفيدرالي استقلاليته. في المقابل لا تبدو هناك مؤشرات قريبة على حدوث هبوط حاد أو تصحيح عميق، خاصة في ظل استمرار الطلب المكثف من البنوك المركزية وصناديق الاستثمار.
وسط هذه التحولات تبرز أمام السودان فرص استثنائية يمكن استثمارها بصورة مبتكرة. فبدلاً من الاقتصار على بيع الذهب الخام، يمكن العمل على إنشاء سوق إقليمي للذهب يكون مقره الخرطوم أو بورتسودان، يستهدف جذب المستثمرين من إفريقيا والشرق الأوسط، ويجعل السودان منصة للتسعير والتداول في المنطقة. كما يمكن إطلاق أدوات مالية جديدة مثل صناديق استثمارية مشتركة بين القطاعين العام والخاص، تتيح للمستثمرين المحليين والأجانب المشاركة في مشاريع التعدين والصناعات التحويلية مثل الحلي والمشغولات، بما يضاعف القيمة المضافة للصادرات.
إضافة إلى ذلك، يمكن إدماج الذهب ضمن استراتيجيات التمويل الحديثة، عبر إطلاق أصول رقمية مدعومة بالذهب السوداني، تستهدف المغتربين والمستثمرين الدوليين الباحثين عن أدوات آمنة ومربحة، وهو توجه يمنح السودان ميزة تنافسية في أسواق التكنولوجيا المالية، ويخلق قناة جديدة لجذب السيولة. ويمكن كذلك استغلال الطفرة الحالية لإطلاق برامج ادخار ذهبي عبر البنوك المحلية، بحيث يحصل المواطن على شهادات أو محافظ صغيرة مرتبطة بالذهب، مما يعزز ثقافة الادخار، ويحوله من مستهلك إلى مساهم نشط في الاقتصاد.
بهذا التصور يصبح الذهب رافعة استراتيجية للتنمية، وأداة للتكامل بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع، ويمكّن السودان من التحول من مجرد منتج للخام إلى لاعب إقليمي في صناعة الذهب العالمية، مستفيدًا من لحظة تاريخية تتجه فيها أنظار العالم نحو المعدن الأصفر كأصل مالي لا غنى عنه.
شارك المقال