الحرب… عندها  تتحول اللغة

63
يوسف عبدالرضي2

يوسف عبدالرضي

شاعر وكاتب صحفي

• هذا رد عن سؤال طرحه الشاعر الأنيق أسامة سليمان

س:

تحياتي هل يمكنك الإجابة عن هذا السؤال مشاركة في استطلاع لنشره على صفحتي وعلى هاشتاق، سعيًا للإجابة عن سؤال الحرب؟

الحرب بوصفها انزلاقاً مفاجئاً نحو الموت؛ هل ألجَمَتْ قصيدتك أم رفدتها بموضوعات جديدة؟ وهل الحرب – على قبحها- قادرة على إنتاج جمالياتها ( الشعرية) الخاصة؟

ج: 

لم تعد الحرب حدثًا يمرّ في الأخبار أو على شاشات التلفاز، بالنسبة لكثيرين أصبحت واقعًا يقتحم تفاصيلهم اليومية من دون سابق إنذار، يخلخل ما اعتادوه من طمأنينة، ويعيد ترتيب علاقتهم بالزمن وبالمكان وبكل ما كان يومًا بديهيًا. الحرب لا تأتي على شكل قذيفة فحسب؛ إنها تأتي أيضًا كشرخ داخلي يستقر في الروح، ويعيد تشكيل الإحساس بالعالم.

أقول للذين لم يدخلوا التجربة كنت أرى العيد مساحة خالصة للفرح، قبل أن أجد نفسي في أول عيد بعد اندلاع الحرب أكتب نصًا بعنوان «عيد الدم». عنوان قاسٍ، لكنه يعكس التحوّل العميق الذي يحدث حين تتجاور مشاهد الدمار مع مناسبات الفرح. الكلمات التي كانت تستدعي البهجة فقدت براءتها، وصارت اللغة نفسها تبدو ملوّثة بما حدث. وبعد فترة كتبت نصًا آخر: «ما شبعتوا موت؟»، في تعبير عن غضبٍ مكتوم وعجزٍ لا يجد له منفذًا سوى الكتابة.

هذا التحوّل ليس حالة فردية. فالحرب، بوصفها فعلًا شاملًا للخراب، تغيّر علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين وبالمستقبل. كل شيء يصغر أمام الخوف، وكل تفصيل يومي يتلوّن بالقلق: الخروج إلى الشارع، الانتظار، النوم، حتى الضحكات التي تنفلت في لحظة عابرة تصبح محمّلة بالشعور بالذنب. ومع ذلك، يبقى السؤال: كيف يستعيد الإنسان قدرته على رؤية الجمال، وكيف يعود الشاعر ليكتب عنه وسط الظلام؟

للإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من التوقف عند نقطتين أساسيتين: تحوّل دور الجمال في زمن الحرب، وتحوّل وظيفة الكتابة ذاتها.

الجمال… ليس غائبًا بل مهدّد. 

الحرب تشبه عاصفة عاتية تقتلع المعاني من جذورها. الجمال، وهو أحد أكثر القيم هشاشة، يصبح مهددًا بالاندثار أو التلاشي تحت ركام الأحداث. ومع ذلك فإن الجمال لا يختفي تمامًا، بل يتراجع إلى الظلال، إلى التفاصيل الصغيرة التي قد تبدو عادية لكنّها تحمل معنى البقاء.

قد يكون الجمال في لحظة هدوء قصيرة بين انفجارين، أو في كوب شاي يظل دافئًا رغم اهتزاز الجدران، أو في يد تمتد لمساعدة عجوز على العبور. هذه التفاصيل البسيطة تتحول إلى شواهد صامتة على أن الحياة لم تُهزم بالكامل، وأن إنسانية الناس أقوى من القبح الذي يحاصرهم.

هكذا يكتشف الشعراء أن الجمال، في زمن الحرب، لا يُصنع من مشاهد كبرى، بل من بقايا الحياة.

الكتابة… من وسيلة للتعبير إلى وسيلة للنجاة

تتحول الكتابة خلال الحرب من ممارسة إبداعية إلى فعل بقاء. فالشاعر الذي يعيش أهوال العنف والدمار لا يكتب ليزيّن الواقع، بل ليقاومه. الكلمات تصبح جدارًا داخليًا يستند إليه، ومساحة لفهم ما لا يمكن فهمه.

النصوص التي تولد في الظروف القاسية لا تكون جميلة بالمعنى التقليدي؛ قد تكون غاضبة، مشوّشة، مليئة بالألم. لكنها تحمل جمالًا من نوع آخر: جمال الصدق. فالكتابة التي تنطلق من الجرح، من الخوف، من فقدان الأحبة، تمتلك قدرة نادرة على لمس الآخرين، لأنها تعبّر عن مشترك إنساني يتجاوز الحدود والسياقات.

وفي الوقت ذاته، تصبح الكتابة وسيلة لمواجهة القبح. عندما كتبت   «عيد الدم»، لا احتفي بالموت؛ بل أفضحه. وحين أصرخ في نصه «ما شبعتوا موت؟»، فهو يمنح الألم صوتًا، ويقاوم الصمت الذي تحاول الحرب فرضه.

دور الشاعر… ليس البحث عن الجمال، بل حراسته

في زمن الحرب، لا يكون الشاعر مطالبًا بتجميل الواقع، بل بحراسة آخر ما تبقى من إنسانية فيه. فالشعر ليس ترفًا، بل شهادة. وكما يحاول الصحفي توثيق الأحداث من الخارج، يحاول الشاعر توثيق أثرها في الداخل: في الروح، في اللغة، في الذاكرة.

هناك جمال في القدرة على الاستمرار رغم كل شيء. هناك جمال في أن يظل الصوت حيًا حين يحاول الخراب إسكات الجميع.

الشعراء عبر التاريخ كتبوا عن الحبّ حين اشتعلت المدن، وعن الضوء حين اخترقوا العتمة، وعن الأمل حتى وهم يدفنون أحلامهم. ليس لأنهم يتجاهلون الألم، بل لأنهم يعرفون أن الكلمة قد تكون السلاح الوحيد الذي يمكنه مواجهة اليأس.

بين الجمال والظلام… مسافة قصيدة

قد لا يمنح الشعر حلولًا، لكنه يمنح المعنى. قد لا يوقف الحرب، لكنه يمنح الإنسان القدرة على تحملها.

والجمال في ذلك ليس ترفًا، بل فعل مقاومة.

فحين يجد الشاعر نفسه عاجزًا عن الاحتفاء بالحياة، يكتب ليؤكد أنه ما زال حيًا.

وحين تضيق الكلمات، يبتكر لغة جديدة، لغة وُلدت من جرح لكنها تحمل ضوءًا.

في النهاية، لا يسأل الشاعر: «أين الجمال؟» بقدر ما يسأل: «كيف أحمي ما تبقى منه؟»،

والإجابة تكمن في الكتابة.

فالقصيدة، مهما كان لونها داكنًا، تظل نافذة صغيرة يدخل منها النور.

 

شارك المقال

2 thoughts on “الحرب… عندها  تتحول اللغة

    1. التحيِّة والتجلّة والتقدير للشاعر الشفيف / أسامه سليمان ولك أيها الحبيب / يوسف عبد الرضي فقد إلتقطت القفاز فعبّرت عما يجول ( بخاطرينا) معا.. فمقالك يمثلني تماما حيث انك قد عبَّرت بشفافية صادقة عمّا يجول بدواخلنا.. فلكما خالص محبتي وعظيم إمتناني ومحبتي التي تعلمناها يقينا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *