الثورات لا تنتصر بسقوط الأنظمة: دروس من السودان والربيع العربي
Admin 9 أغسطس، 2025 25
أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
• في الأزمنة المظلمة، حين يتراكم القهر جيلًا بعد جيل، تتبلور الثورة أولًا في وجدان الناس، لا في الشوارع. تنمو كفكرة، كرفض خافت، ثم كغضب صامت، قبل أن تتحول إلى هتافٍ يهزُّ الساحات. تبدو لحظة اندلاع الثورة، في الظاهر، كحدثٍ مفاجئ، لكن باطنها سنوات من الألم المكبوت، والأمل المؤجل، والصبر المكسور. وعندما يسقط الطاغية تحت ضغط الجماهير، تمتلئ القلوب بالنشوة، وتُرفع الشعارات، ويُظن أن النصر قد تحقق. غير أن هذه اللحظة كثيرًا ما تكون خادعة.
إن أحد أخطر الأوهام التي وقعت فيها الشعوب المنتفضة هو اعتقادها بأن الثورة تنتصر بمجرد أن يسقط النظام، وكأن مجرد تغيير رأس السلطة كافٍ لتغيير بنية الدولة، أو استعادة كرامة الإنسان. والحقيقة أن ما يُسقط في أيامٍ قليلة قد يحتاج عقودًا لإعادة بنائه بشكل عادل. فالثورة ليست فقط في تغيير من يحكم، بل في إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، بين السلطة والمجتمع، بين القانون والعدالة.
لقد عاش العالم العربي، منذ 2011، موجة غير مسبوقة من الثورات الشعبية، واجهت أعتى الأنظمة، وأسقطت رؤوسًا كانت تُعدّ خالدة. لكنها في معظمها، واجهت ارتدادًا عنيفًا، بل وتحولت في بعض الحالات إلى فوضى أو حروب. والسودان مثال حيّ على هذا الدرس العميق: أن الثورة لا تنتصر حين تسقط الأنظمة فقط، بل حين تنهض الشعوب من تحت أنقاضها وهي تحمل مشروعًا واضحًا، وأخلاقًا جديدة، ومؤسسات بديلة.
متى تفشل الثورات؟
تفشل الثورات حين تُركّز على لحظة إسقاط النظام دون تخطيط لما بعده. وحين تفرح الجماهير بالنصر الرمزي ولا تنتبه أن مؤسسات الدولة القديمة ما زالت تعمل بنفس المنطق، بل وأحيانًا بنفس الأشخاص. حين تُختزل الثورة في شعارات، وتُختطف العملية السياسية من قِبل قوى لم تشارك في الحراك الشعبي، أو أسوأ من ذلك، من قِبل العسكر.
أغلب الثورات العربية التي اندلعت بين 2011 و2023 سقطت في هذا الفخ: سقطت الرؤوس، لكن بقيت البنى، بل وعادت في أحيان كثيرة بقوة أكبر، محمولة على خطاب مضاد للثورة، وعلى تعب جماهيري من الفوضى.
مصر وتكرار الاستبداد
في مصر، خرج الملايين يهتفون للحرية، وأسقطوا نظام مبارك في لحظة بدت تاريخية بكل المقاييس. لكن ما لبثت أن عادت الدولة العميقة بكل قوتها، واستغلت الانقسام بين القوى السياسية، وخاصة بين التيار الإسلامي والليبرالي، لتبرير عودة العسكر. فكانت النتيجة إعادة تدوير الاستبداد بصورة أكثر قمعًا وتحصينًا.
لم يكن فشل الثورة المصرية بسبب غياب الشجاعة أو قلة التضحيات، بل بسبب غياب التخطيط المؤسسي لما بعد السقوط، وغياب ثقافة التوافق، واستعجال الحسم من دون مشروع جامع.
سوريا وليبيا واليمن: الحلم حين يتحوّل إلى كابوس
في سوريا، بدأت الثورة سلمية، بهتافات الحرية، لكنها قوبلت بالرصاص والتنكيل، فتحوّلت إلى صراع دموي مفتوح على كل الاحتمالات، داخليًا وخارجيًا. دخلت الميليشيات، وتعددت الولاءات، وتحوّلت الأرض السورية إلى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية.
ليبيا، بعد سقوط القذافي، دخلت في دوامة نزاع مسلح نتيجة غياب مؤسسات حقيقية، وتركّز الدولة كلها سابقًا في شخص الحاكم. في اليمن، لم تُبْنَ شراكة سياسية حقيقية بعد الثورة، فاستغلتها القوى الإقليمية، وسقطت الدولة في أتون الحرب والتشظي.
السودان: ثورة عظيمة بلا مظلة تحميها
ربما يُعتبر السودان الحالة الأكثر تعقيدًا وعمقًا، إذ إن الثورة التي بدأت في ديسمبر 2018 كانت امتدادًا طويلًا لمحاولات سابقة: انتفاضتا 1964 و1985، ثم الحراك الطويل ضد نظام البشير.
أسقط السودانيون الطاغية، ووقّعوا على وثيقة دستورية كانت واعدة، لكن الواقع سرعان ما انكشف: القوة الفعلية كانت بيد العسكر، فيما القوى المدنية منقسمة ومشتتة، بلا قاعدة تنظيمية قوية ولا رؤية مشتركة للانتقال.
ثم جاء انقلاب 25 أكتوبر 2021، ليُجهض الآمال، تلاه اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع، فأصبحت البلاد ساحة للدمار، وتحوّلت الثورة إلى ذكرى جميلة تنهشها الحرب وتغتالها الحسابات العسكرية والسياسية الضيقة.
لماذا لا تنتصر الثورات عند إسقاط الأنظمة؟
لأن النصر ليس فقط انهيار القديم، بل ولادة الجديد. وهذا يتطلب:
1. مشروعًا وطنيًا جامعًا لا يُقصي أحدًا، ويرتكز على العدالة الانتقالية، والمواطنة، والديمقراطية.
2. مؤسسات بديلة من لجان أحياء، ونقابات حرة، وأجهزة إعلام مستقلة، ومجالس محلية ديمقراطية.
3. ثقافة سياسية جديدة تتجاوز الزعيم الفرد، وتُقدّس العمل الجماعي، وتؤمن بأن الديمقراطية مسار لا حدث.
4. تحصين الثورة من الداخل عبر وعي شعبي لا يُخدع بالشعارات، ولا يقبل استبدال عسكري بآخر.
5. التمكين الاقتصادي والاجتماعي: لأن الثورة لا تعني فقط الحريات السياسية، بل تحسين شروط الحياة للغالبية المهمّشة.
في الثورة… من يسأل «ماذا بعد؟» هو المنتصر
الثورات الناجحة في التاريخ لم تكن فقط تلك التي أسقطت الطغاة، بل التي بنت نظامًا جديدًا أفضل. فالسؤال الأخطر في أي ثورة ليس «من نُسقِط؟»، بل «ماذا نبني؟». والثوار الحقيقيون لا يتوقفون عند لحظة الانتصار الرمزية، بل يبدأون العمل الجاد بعد أن يسكت الهتاف.
ثورة جنوب إفريقيا لم تُهزم لأن نيلسون مانديلا لم يخرج من السجن حاقدًا أو متعجلاً للثأر، بل قاد بلاده إلى مصالحة وطنية، وصاغ دستورًا يُعدّ من أرقى دساتير العالم. فهم أن بناء الدولة أصعب من إسقاط النظام، وأن العدالة لا تعني الانتقام، بل الإنصاف، والكرامة، والعيش المشترك.
في أمريكا اللاتينية، أسقطت شعوب كثيرة أنظمتها العسكرية القمعية، لكنها لم ترتكب خطأ تسليم السلطة مجددًا للجنرالات تحت ضغط الفوضى أو الخوف، بل خاضت معارك طويلة من أجل دساتير ديمقراطية تُرسّخ حكم القانون، وتمنع تكرار الاستبداد.
في كل هذه التجارب، أدركت الشعوب أن النصر لا يكون كاملًا إلا حين تتغير بنية الدولة، ويُعاد توزيع السلطة والثروة بشكل عادل، ويُنتَج وعي جديد. أما في السودان، فما يزال هذا الدرس في طور التشكل، وسط دماء ونزوح ومآسٍ متراكمة.
الثورة السودانية لم تنته… لكنها تحتاج مراجعة
رغم الحرب، والتشظي، والانقسام، لم تمت الثورة السودانية. ما زالت لجان المقاومة تنبض في الأحياء، وما زال الشارع يعرف الفرق بين حرية تُنتزع واستبداد يُجمّل بواجهات مدنية. لم يعد الوعي كما كان قبل ديسمبر 2018، ولا يمكن لأحد أن يُعيد السودانيين إلى ما قبل تلك اللحظة المفصلية.
لكن المطلوب الآن ليس فقط الاستمرار في الرفض، بل تطوير رؤية بنّاءة لمستقبل مختلف. المطلوب مراجعة التجربة بكل شجاعة، ونقد الذات قبل الآخرين. الثورة تحتاج إلى جرد حساب، لا للتنديد فقط، بل للتصحيح. فالثورات لا تنتصر فقط حين تسقط عدوها، بل حين تتغلب على نقاط ضعفها.
إن البديل ليس حكومة مدنية شكليّة، تركّز على الوجوه وتنسى البرنامج، بل مشروع وطني يتجاوز المناطق والقبائل، ويجمع بين أبناء دارفور، وكردفان، والشرق، والوسط، والشمال، والخرطوم.
مشروع يعترف بالمظلومية التاريخية، لكنه لا يسجن المستقبل فيها. مشروع يضع العدالة الاجتماعية والمساواة في المواطنة فوق كل اعتبارات الغنائم السياسية أو توازنات المحاصصة.
المطلوب ليس فقط دولة جديدة، بل مجتمع جديد، بعقد اجتماعي واضح، ينهي ثقافة التهميش، ويزرع مكانها ثقافة المشاركة. مجتمع يؤمن أن السلاح لا يبني وطنًا، وأن السياسة لا تُدار من الثكنات، وأن الوحدة لا تأتي بالإكراه، بل بالعدل والإنصاف.
حين تصبح الثورة مسارًا لا لحظة
الثورة، في جوهرها، ليست لحظة غضب، بل مسار وعي وبناء. ليست شعارًا نرفعه فقط، بل قيم نعيشها ومؤسسات نبنيها. كل تجارب الشعوب تقول: من يخطط لليوم التالي للثورة هو من ينجو من الثورة المضادة، ومن يكتفي بإسقاط النظام سيكتشف أن النظام القديم يعرف جيدًا كيف يعود بوجه جديد.
لقد أثبتت التجربة السودانية، كما غيرها، أن سقوط الأنظمة لا يعني بالضرورة النهوض، إن لم يصاحبه مشروع بديل قوي، جامع، ومؤسسي. الثورة لا تنتصر في الشوارع فقط، بل في النصوص الدستورية، وفي المدارس، والمحاكم، وأجهزة الإعلام، ونقابات العمال، واتحادات المزارعين.
الثورة الحقيقية هي التي تُربّي أجيالًا جديدة على ألا يرضوا بالظلم، وألا يهابوا السلطة، وألا يقبلوا بالتمييز، وألا ينسوا أن كل نقطة دم سُفكت من أجل وطن يستحقنا جميعًا.
ليس النصر أن نُسقِط من لا نريده، بل أن نبني ما نريد… أن نصوغ وطنًا من جديد، بأيدي الجميع، لأجل الجميع.
شارك المقال