الثقة… آخر ضحايا الحرب

337
عماد الدين

عماد الدين الصادق

كاتب صحفي

• في الحروب، لا تموت المدن فقط،

 بل تُدفن معها المعاني. إن كان للبيوت، تُرمم بعد الحرب، فكيف نُرمم الأرواح التي لم تعد تصدّق أحداً؟ كيف نعيد تركيب الثقة حين تنكسر، لا كزجاج، بل كقلبٍ لم يعد يعرف كيف يحب؟ حرب السودان المستمرة، كغيرها من الحروب، لم تكتفِ بتهشيم الجدران، وتفجير الأسواق، وقطع الطرقات، بل تسللت إلى الداخل. إلى الروح، إلى العلاقة بين الجار وجاره، والأخ وأخيه، إلى أعماق المجتمع الذي كان يستند يوماً إلى أعمدة غير مرئية من الاطمئنان المتبادل، والنية الحسنة، وحسن الظن. في زمن الحرب، لا أحد يُسعف أحداً دون أن يسأله: «من وين أنت؟»

لماذا يسأل؟ لا يدري. 

فقد أصبح المكان شُبهة، والانتماء تُهمة. في الأحياء التي كانت تتقاسم «الملح والملاح»، أصبح كل باب موصداً خلفه خوفٌ من الآخر، ولو كان الآخر هذا جاراً منذ ثلاثين عاماً. كأن الحرب لا تكتفي بالقتل، بل تُعيد تشكيل الإدراك نفسه، فتجعلنا نرى في العابر جاسوساً، وفي المنكوب محتالاً، وفي الناجي متواطئاً. هكذا تُفسد الحرب «الملح». حتى الفضائل البسيطة.. كالشهامة، والإغاثة، والكرم.. تغدو مشبوهة. لماذا يساعدني؟ لا بدّ أنّ له غرضاً. كل فعل طيب يُقرأ بخلفية مشوهة. أصبح الخير نفسه يحتاج إلى إثبات نيات، كما لو أننا في محكمة لا قانون فيها سوى الخوف. عندما يُجبر الناس على النزوح من قراهم ومدنهم، أو يُقتلعون من جذورهم تحت وطأة القصف أو التهديد، يفقدون تدريجياً الشعور بالانتماء إلى مكان محدد. الطفل الذي وُلد في الخرطوم، ونشأ في دارفور، ثم هُجّر إلى مصر أو إثيوبيا، أي هوية يحمل؟ أي ذاكرة جماعية تبقى له؟ الحرب تصنع أجيالاً من «المنفيين داخلياً»، حتى لو لم يغادروا بلادهم..

الانتماء إلى مكان ما ليس رفاهية، بل حاجة نفسية عميقة. وحين يجد المرء نفسه فجأة في مخيمات النزوح، أو في أحياء جديدة حيث يُنظر إليه كـ»دخيل»، ينشأ صراع وجودي.. هل أنا من هنا؟ أم من هناك؟ هل أنا جزء من هذه المجموعة أم تلك؟

هذا الاغتراب يتحول إلى غضب مكبوت، أو انطواء مرَضي، أو في بعضه، إلى ولاءات متطرفة لتعويض الفراغ. الحرب، قسّمت عائلات بين مناطق سيطرة مختلفة، أو في مدن متباعدة. الأب بمكان آخر بحثاً عن احتياجات أسرته، والأم هي التي تتحمل عبء إعالة أطفالها وحدها، هذا الوضع يُنتج أُسراً، تفتقر إلى الأدوار الاجتماعية المتوازنة. ليس الفقر وحده ما يصنع الوحشة، بل انعدام الثقة. حين يُصبح الواحد فينا يضع قِفْله على روحه قبل بيته، تُولد المسافات الجديدة، حتى بين أفراد العائلة الواحدة. كم من إخوة الآن اختلفوا لأن الحرب فرزتهم طائفياً أو جغرافياً أو إثنياً؟ كم من شراكات تجارية تفككت لأن واحداً من الشركاء «ينتمي للقبيلة الغلط»؟

كم من صداقات الطفولة صارت معلّقة على بوابة الشك؟ كلما استمر الصراع، زادت الشروخ بيننا، حتى أصبحت الحياة اليومية حقل ألغام نفسي. ننتقي كلماتنا. نخفي ما نشعر به. نرتاب من الكلمة الطيبة كما نرتاب من الشتيمة المؤجلة. لقد تحوّلت العلاقات الاجتماعية من فسحة راحة إلى حقل صراع مؤجل. الثقة ليست مجرد قيمة أخلاقية، بل هي ركيزة اجتماعية وسياسية واقتصادية.

من دونها، لا يُبنى وطن. من دونها، لا يمكن أن تقوم مصالحة، ولا إعادة إعمار، ولا حتى تجارة بسيطة في سوق شعبي.

ولهذا فإن إعادة بناء السودان لا تبدأ بالإسمنت والحديد، بل تبدأ من ترميم ما تهدّم في النفوس. لا بدّ من مشروع وطني لإعادة التماسك الاجتماعي. لا يكفي نزع السلاح من الأيادي، بل من العقول أيضاً. 

نحتاج إلى أدوات لم نألفها كثيراً.. الحوار، التثقيف، القبول، العدالة الانتقالية، رواية مشتركة للكارثة، لا روايات متصارعة تسكن كل جهة. في كل مرة أسمع فيها عبارة «ما عدت أثق بأحد»، أتحسس الجرح الذي لا يُرى. في كل مرة أرى طفلاً لا يبتسم للغريب، أعرف أن الحرب ما زالت تكتب فصولها في العيون قبل الكتب. هذا التآكل غير المرئي -هذا الوباء الصامت- هو أخطر ما في الحروب. لأنك تستطيع أن تبني جسراً على نهر مهدّم، لكنك لا تستطيع أن تبني جسراً بين قلبين إذا انهارت الثقة. والحرب، حين تفعل، لا تُقصي فقط الآخر، بل تُقصي الإنسان الذي كنّا عليه.

ربما حين نضع السلاح، لا نحتاج فقط إلى اتفاق سياسي، بل إلى معاهدة ثقة… بين الأنا والآخر.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *