التحكيم… قضاء الإرادة الحرة

77
مالك محمد عبدالمطلب محمد

مالك محمد عبدالمطلب

المستشار والمحكم

• في زمن تتسارع فيه وتيرة النزاعات، وتزداد فيه تعقيدات العلاقات التجارية والمدنية، برز التحكيم كواحد من أنجع الوسائل البديلة لحل النزاعات خارج أروقة المحاكم، بما يوفره من سرعة، ومرونة، وسرية، وعدالة خاصة تقوم على مبدأ «إرادة الأطراف».

فالتحكيم ليس مجرد إجراء قانوني فحسب، بل هو فلسفة تقوم على احترام إرادة الإنسان، وثقته في الحل الهادئ المتزن، بعيدًا عن صخب الخصومات القضائية الطويلة. وعندما يتفق طرفان على اللجوء إلى التحكيم، فإنهما يعبّران بوضوح عن رغبتهما في أن تُحل مشكلاتهما بطريقة ودية، ولكن بآليات قانونية محكمة.

ولعل من أبرز ما يميز التحكيم هو السرعة في الفصل، والمرونة في الإجراءات، واختيار المحكمين ذوي الخبرة، مع ضمان أعلى درجات الحياد والاستقلالية، مما يجعله بيئة خصبة للعدالة الناجزة، خاصة في ظل تكدّس القضايا أمام المحاكم.

إنّ دور المحكّم لا يقل أهمية عن دور القاضي، بل ربما يزيد في بعض الأحيان؛ لأنه لا يكتفي بتطبيق القانون، بل يسعى أحيانًا لتحقيق العدالة بحسب ما تقتضيه طبيعة العلاقة، وما توافق عليه الأطراف، ضمن حدود القانون والنظام العام.

وفي الدول العربية، يُعد التحكيم أداة قانونية مهمة، واعدة، لكنها لا تزال تواجه تحديات عدة، منها محدودية الثقافة القانونية حوله، وعدم وجود بنى تحتية متطورة لمراكز التحكيم، بالإضافة إلى التباين في تشريعات التحكيم بين دولة وأخرى. ومع ذلك، تشهد السنوات الأخيرة تحسنًا ملحوظًا، حيث بدأت بعض الدول العربية بإصدار قوانين حديثة تحاكي أفضل المعايير الدولية، وتأسيس مراكز تحكيم محلية وإقليمية، تسعى لجذب النزاعات التجارية الكبرى.

أما في السعودية، فقد شهد التحكيم تطورًا كبيرًا، خاصة بعد صدور نظام التحكيم الموحد في 2012، والذي جاء متناغمًا مع اتفاقية نيويورك، مما عزز من مكانة المملكة كوجهة للاستثمار التجاري والاقتصادي. كما أن إنشاء مركز التحكيم التجاري السعودي يعد نقلة نوعية في دعم اللجوء للتحكيم، وتوفير بيئة قانونية موثوقة ومستقرة للطرفين. وتدعم السعودية التطورات القانونية والتشريعية التي تسهل وتسرّع إجراءات التحكيم، مع تعزيز التوعية بأهمية هذا النظام كوسيلة فعالة لتسوية المنازعات.

أما السودان، فيسير بخطى ثابتة نحو تعزيز ثقافة التحكيم، من خلال تحديث التشريعات ذات الصلة، وإنشاء مراكز تحكيم محلية، فضلاً عن اعتماد الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم. ورغم التحديات السياسية والاقتصادية التي يواجهها السودان، إلا أن التحكيم يظل أداة واعدة تساهم في جذب الاستثمارات وحماية الحقوق، خاصة في ظل الحرص على توفير بدائل فعالة وسريعة للنزاعات التجارية بين الشركات المحلية والدولية. كما يبرز دور المحكمين السودانيين المعتمدين في ضمان جودة القرارات والتحكيم بشفافية ومهنية عالية.

إن تعزيز التحكيم في كل من السعودية والسودان، يمثل خطوة نحو تحقيق بيئة تجارية أكثر نضجًا وموثوقية، تعزز من استقرار الأعمال، وتسرّع من حل النزاعات، وترسخ قيم العدالة والشفافية.

ختامًا، فإن التحكيم لا يُغني عن القضاء، بل يُكمله، ويخفف عنه، ويمنح الخصوم بدائل حضارية، قائمة على الحكمة، والثقة، والعدالة. وهو في ذلك يستحق أن يُعرف، ويُمارس، ويُطوّر، ليواكب متغيرات الواقع، ويلبي تطلعات المجتمع.

التحكيم هو الحصن المنيع الذي يحمي الحقوق، والقضاء الذي لا يعترف إلا بإرادة الأطراف، فلا عدل بلا اختيار، ولا حكم بلا حرية».

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *