
عمر حسن غلام الله
قاص وكاتب صحفي.
• بدأت بعود واحد من قصب السكر يقطعه لي بائع القصب الى أربع أو خمس قصبات صغيره أبيعها عند باب بيتنا، ثم أصبحت أشتري ربطه كاملة من القصب استأجر حماراً لنقلها الى أمام بيتنا، فقد كثر زبائني، وفي المساء استجلب ربطة أخرى لأبيع القصب أمام السينما، كان ريع بيع القصب يكفي معيشة أهلي بالكاد، لذلك كان لابد من تغيير مسار حياتي، فلا مجال لأن التحق بالجامعة، لذا بعد نجاحي في امتحان الشهادة الثانوية بتفوق قدمت لكلية الشرطة- الشرطة وليس الجيش- فلابد لي من تأديب النشالين والحراميه، أليسوا هم السبب في وفاة والدي؟ أليسوا هم السبب في تغيير مجرى حياتي وحرماني من دخول كلية الهندسة التي أهلني مجموعي لدخولها؟ أليسوا هم السبب في حرماني من قراءة قصصي المفضلة من (روايات عالمية) والقصص البوليسية لآجاثا كريستي، والروايات العاطفية لمحمد عبد الحليم؟ أليسوا هم السبب في جعلي (بائع قصب سكر) بدلاً عن التحاقي بالنادي الرياضي الذي أحبه؟ لابد من الثأر منهم، يوماً ما سأعرف من نشل أبي وسأقتص منه.
وآثار جريمة هؤلاء الجبناء تعدت المسائل المادية والدراسية الى عمق المسائل العاطفية، فقد أجبرني احترافي لبيع القصب أن أنأى بنفسي عن (الحنان)، وحتى عندما اكتسيت البدلة العسكرية ولمعت على كتفي النجوم التي جذبت أنظار حسان الحي، لم آذن لقلبي أن ينفتح لاحداهن، فالهدف الأوحد هو شراء البيت- ذاك الهدف الذي أودى بحياة أبي- ولأجله كنت أقبل نقلي الى مناطق الشدة، ففيها استطيع أن أوفر أكبر جزء من راتبي، ومنها استطيع جلب ما يمكن بيعه في المدينة، فقد اتقنت التجارة بدءاً من قصب سكر الجنيد مروراً بخشب الدمازين وأبنوس الجنوب وعسل الغرب وبلح الشمال ومهملات ميناء بورسودان..
تعلقت بي سابنا (هكذا كان يلقبها أبناء الحي)، ولكني كنت في شغل شاغل عنها، ويبدو أنها اعتبرت تشاغلي عنها نوعاً من (التقل) المتعمد، فازدادت تعلقاً وولهاً بي.. كانت بالفعل جميلة ورقيقة، وشعرها طويل وناعم يغطي معظم ظهرها كالهنديات، ولا غرو ان أطلق عليها شباب الحي إسم بطلة فيلم )جانوار( الهندي، ووصفني أصحابي بأنني إما أعمى أو مجنون أن أترك مثل هذا الغزال يفلت من بين يدي، وتمنوا لو نالوا حتى نظرة من عينيها أو بسمة من ثغرها.. قلت لهم- ولها- أن مشواري ما زال طويلاً.. قالت سانتظرك، قلت حرام أن أظلمك واجعلك تنتظرينني سنين لا أعرف كم سيكون عددها.. وانتظرت وطال انتظارها- او هكذا خيل إليها عندما تقدم لها المغترب- فجاءتني تخبرني بأمر هذا الخاطب، فباركت لها، فانحدرت دمعتان من مآقيها التي تشبه عيون المها على خديها الأسيلين، ثم مدت يدها مودعة، فخفق قلبي حينما احتضن كفي كفها الناعم البض، ثم استدارت منصرفة وعيوني تتبعها، فرددت قول الشاعر الجاهلي:
فرعاء مقبلة، عجزاء مدبرة، لا يُشتكى قِصرٌ منها ولا طول..
ثم اختفت من ناظري، ومن حياتي.. وتزوجته.. ودمعت عيناي.. لأول مرة منذ وفاة أبي.. كله يهون في سبيل تحقيق حلم أبي الذي رحل بسببه، وحلم أمي الذي باتت تنتظره مني، وحانت اللحظة السعيدة، فقد كافأني أحد التجار الكبار بمبلغ محترم لمجهوداتي في إعادة مسروقات قيّمة له، فأضفتها لما تجمع لدي من مال طيلة السنوات السابقة من بيع منتجات الأقاليم، واخذت سلفة من البنك، وأكملت ثمن البيت، مائة مليون جنيه.. لم أعد أدري هل أنا سعيد أم حزين؟ سعيد لأنني حققت حلم الأسرة، وحزين لأن هذا البيت دفع ثمنه ابي عمره، ولأنه أخذ مني أحلى أيام العمر.. فترة الصبا والشباب.
عدت من مكتب المحامي بعقد شراء البيت، وقبل أن أصل الى باب البيت الذي نسكنه ناداني أحدهم، فالتفت، فإذا به أحد سكان الحي المجاور لحيّنا، فسلم عليّ ثم سلمني مظروف، نظرت في المظروف فوجدت أنه معنون الى أبي – رحمه الله- فعقدت الدهشه لساني، ولم انطق ببنت شفه، ونظرت الى الرجل نظرة تساؤل أن يُفهمني ما ذاك المظروف ومن أرسل لأبي رسالة وأبي قد فارق الدنيا منذ أمد بعيد..
شرح لي أنهم قد هدموا البيت الذي اشتروه ليعيدوا بناءه فوجدوا داخل الجدار علبة حديدية فتحوها ووجدوا بداخلها هذا المظروف، فقرأوا الإسم على المظروف وعرفوا أنه يخص والدي..
فتحت المظروف.. واخرجت محتواه.. إشعار تحويل مبلغ عشرة جنيهات من بوستة كورتي الى بوستة ود مدني، و.. مبلغ مائة جنيه..
شعرت بدوار، أمسكني الرجل، لحقت باب بيتنا بالكاد، استندت عليه، أعدت فحص المظروف ومحتوياته، لم أستطع رؤية شئ، كانت غشاوة تمنعني، بل كانت دموع ترقرقت في عيني.. لماذا يظهر هذا المظروف الآن؟ في هذا اليوم بالتحديد، وفي هذه اللحظة بالذات التي تسلمت فيها أوراق البيت؟ البيت الذي كان من المفروض ان نشتريه منذ عقدين من الزمان- أو يزيد- لولا هذا النشال المجرم.
وزاد الرجل توضيحاً بأنهم كانوا قد اشتروا هذا البيت منذ مدة، والذي يبدو أن مالكه السابق لم يكن يسكنه، بل كان يؤجره لأحدهم، وربما أن المستأجر الذي عاصر تلك الأحداث- المؤلمة لنا- هو من خبأ المظروف في الجدار.. فهو بلا شك من نشل أبي، وقضى عليه، وأرمل أمي، ويتّمنا، وقضى على طموحاتي.. ثم ترك الزمن يأكل تلك المائة جنيه دونه.. نعم تذكرت الآن من كان يسكن ذلك البيت في تلك الفترة، إنه بالفعل لم يكن ذو سمعة طيبة، ولم يمهله العمر ليستفيد من غنيمته الكبيرة، لقد لحق بأبي الى دار الآخرة قبل أن يستخرج كنزه المسروق، فتركه للزمن ليصبح مجرد أوراق ملونه لا تساوي حتى (حلاوه كرمله).. مائة جنيه كانت كافية لشراء بيت الأسرة، اختزلت في اوراق لا قيمة لها، لقد كانت في وقتها كالمائة مليون التي اشتريت بها البيت اليوم، ولقد كانت أهم من كل ملايين الدنيا، لأنها كانت ستبقي حياة أبي- استغفر الله العظيم.. استغفر الله العظيم..
وأعادني الى الواقع صوت الرجل:
آآي يا ولدي.. استغفر الله..
وانتبهت إلى دموعي المنهمرة مدراراً على صدري.
شارك المقال