

أ. د. سعد يوسف عبيد
(الطريق إلى مدني)
• هنالك وجدنا أزمة في المواصلات العامة .. فالمحطة كانت مكتظة بالمغادرين بحقائبهم .ز أما السوق والطرق المؤدية إليه فقد كانت مكتظة بشتى أنواع المنهوبات .. شاشات .. أجهزة طاقة شمسية .. أجهزة كهربائية بأنواعها .. أثاثات وأواني وملابس و غيرها الكثير .. كأن المدينة كانت قد أفرغت جوفها دفعة واحدة في هذا المكان .. وقد لاحظت أن الباعة لا ينتمون للغزاة فهم من سكان المدينة .. يشترون المنهوبات من الغزاة و يبيعونها بأثمان بخسة إذ يمكنك أن تشتري شاشة أربعين بوصة بخمسة ألف جنيه و ثلاجة بعشرة .. سوق عجيب .. كل المحلات فيه محترقة و مهشمة بينما تعرض البضائع الفاخرة على قارعة الطريق وسط برك الأوحال .
و لما كانت المحطة خالية من المواصلات العامة أصبح أمر وصولنا الحاج يوسف واللحاق بحافلات مدني عسيراً إن لم يكن مستحيلاً .. فلم يكن أمامنا سوى السفر عن طريق النيل الأبيض و تحمل مشاقه .. لكن العثور على حافلاته أصبح هو أيضاً عسيراً إذ أن محطة حافلات النيل الأبيض كانت هي أيضاً خالية من الحافلات و مكتظة بالراغبين في السفر .
وقفنا على جانب الطريق في حيرة من أمرنا .. وقبل أن يتملكنا اليأس وقفت حافلة و صاح سائقها و مساعده منادين : مدني .. مدني
ودون أي تفكير احتللنا مقاعدنا داخلها .. كانت قيمة التذكرة باهظة جداً .. قبلناها دون أي فصال إذ لا خيار أمامنا .. لم تمض دقائق معدودة حتي أصبحت الحافلة كاملة العدد.
في تمام الساعة التاسعة صباحاً تحركت الحافلة .. لم تتوجه جنوباً كما توقعت لكنها اتجهت شرقاً فسألت مساعد السائق : إنتو ما ماشين بالنيل الأبيض ؟
لا.. حنمشي بالشرق .. بي رفاعة
يعني حتمشو الثورة و تقطعو بي كبري الحلفايا ؟
لا.. حنمشي بي كبري شمبات
مع ذكر كبري شمبات شعرت بالخوف الشديد حيث أن هذا الجسر هو منطقة عمليات نشطة .. يحتله الغزاة و تضربهم قذائف الجيش .. لم أتملك نفسي فصحت في دهشة ممزوجة بالرعب :كبري شمبات ؟؟!!
إتوكل على الله يا حاج
توكلت على الله .. ولما نظرت من نافذة الحافلة وجدتها قد بدأت تجتاز السوق بصعوبة .. إذ تمددت تلك الأسواق على جانبي الأسفلت في مناطق حي أمبدة القريبة من سوق ليبيا .. والمدهش أن أسواق المنهوبات التي احتلت أماكن أسواق العاصمة القديمة قد أطلقوا عليها اسم القائد الأعلى للغزاة دون أدني حياء .
أخيراً تمكنت الحافلة من دخول شارع العرضة .. كان الشارع خالياً من حركة المرور إلا من السيارات المنهوبة التي تنقل المنهوبات إلى السوق و هي لا تلتزم بأي ضوابط للمرور .. شاحنات وسيارات من كل الأنواع والأحجام و ( تكاتك ) و دراجات نارية ( مواتر ) و ( ركشات ) تزرع الشارع جيئة وذهاباً لا يقودها أحد سوى الغزاة عدا الركشات التي سمح لبعض المواطنين بقيادتها .. كل هذه الآليات تغدو إلى السوق مشحونة بحصادها من المنهوبات و تعود منه خالية .. لاحظت كثافة في بائعي البنزين المعبأة في أواني بلاستيكية ( باغات ) لكم حينها أعلم لمن يبيع هؤلاء البنزين ؟
فجأة قابلنا أول ارتكاز للغزاة .. أوقف عساكر الارتكاز حافلتنا .. نزل السائق ومساعده .. و بعد التفاوض الذي استغرق زمناً طويلاً دفع السائق الأتاوات التي فرضهوها عليه و سمحوا له بالمرور دون تفتيش ..تحركت الحافلة و قبل أن تسير مسافة مقدرة توقفت لارتكاز آخر .. هذه المرة نزل مساعد السائق ودفع الأموال المطلوبة دون نقاش و عاد .. و لما تحركت الحافلة أمتاراً قليلة أوقفها أحد عساكرهم وكان يقف على الجانب الآخر من الشارع .. تحرك نحو الحافلة في بطء شديد أثار قلقنا .. ودون أن يحي أو يتحدث مع السائق أو مساعده صعد مباشرة إلى داخل الحافلة و طفق يحدق فينا فرداً فرداً ثم اختار الشباب ليسألهم عن البطاقات .. استلم البطاقات وتأملها ثم أعادها و نزل ليسمح للحافلة بالمرور .
و الحافلة تسير في الشارع تأملت جانبي شارع العرضة فوجدت المباني المطلة عليه قد استحالت إلى خرائب .. واجهات المحلات التجارية الجميلة بالسواد جراء الحرائق .. إغتمت نفسي لما رأيته على شارع العرضة الذي كان يعج بالحياة وتزدان جوانبه بالواجهات الفخيمة فقررت أن أركز بصري داخل الحافلة فلاحظت أن كل الوجوه بلا إستثناء عابسة واجمة فكأنني استجرت من بؤس الشارع بعبوس رفاق السفر ..
توقفت الحافلة مرات عديدة في عدد من الارتكازات كان آخرها مباني بلدية أمدرمان ثم اتجهت شمالاً ودارت مع حوائط ميدان الخليفة .. نظرت بداخله فرأيت عدداً من السيارات المنهوبة المختلفة الأشكال والألوان .
ولما وصلنا مستشفى أمدرمان الخالية من الأطباء والمرضى سمعت أصوات عيارات نارية .. نظرت داخل المستشفي المشرعة الأبواب .. رأيت أحد الغزاة يطلق وابلاً من الرصاص في الهواء .. لأي سبب ؟ لا أدري .
بوصولنا لسوق الشهداء أصابتني الدهشة إذ وجدته سوقاً عامراً خصوصاً الأسواق المخصصة لبيع وشراء و صيانة أجهزة الهواتف السيارة .. الحركة فيه تكاد تكون طبيعية مطمئنة رغم أصوات الرصاص .. خليط عجيب من المواطنين والغزارة .. فبدت لي حركة السوق مزدهرة كما كانت قبل الحرب.
في محاذاة منزل الزعيم الأزهري أوقفوا الحافلة .. أنزلونا منها و أوقفونا صفاً .. و بدأوا في مراجعة أوراقنا الثبوتية و تأملوا وجوهنا ثم بدأوا بالسماح لنا بالركوب واحداً بعد الآخر بداية بالنساء وكبار السن .. أما الشباب فكانوا يعرضونهم لوابل من الأسئلة والاستجوابات والاتهامات .. ولما كنت من أوائل الذين سمح لهم بالصعود إلى الحافلة وجدت الفرصة مواتية لتأمل منزل الأزهري الذي كان قد وصلتنا عنه أخبار تفيد بأنه يستخدم كمعتقل للنساء ووكر للإغتصابات .. لاحظت أن بوابته الجنوبية مفتوحة على مصراعيها و بها آثار الكسر و عبرها رأيت عدداً من الغزاة يحومون داخل المنزل ركزت بصري على الطوابق علي أجد أثراً لمعتقلات داخل المنزل إلا أن التفتيش كان قد انتهى وتحركت الحافلة .. نظرت في ساعتي فكانت الواحدة ظهراً أي أن رحلتنا من سوق ليبيا حتى تحركنا من منزل الأزهري استغرقت أربع ساعات.
من هناك وحتى خروجنا من كبري شمبات توقفنا عند عدد من الارتكازات كان من بينها ارتكاز غريب عجيب .
و .. نواصل
شارك المقال