البحّارة الجدد: إعادة بناء السودان من رحم الألم
Admin 22 نوفمبر، 2025 55
أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
حين يُعيد الألم رسم الموانئ ويصنع رجال البحر الجدد
• العاصفة ليست النهاية بل بداية الوعي. الحرب التي عصفت بالسودان منذ أبريل 2023 لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل زلزالًا أخلاقيًا وسياسيًا وثقافيًا هزّ بنية الدولة والمجتمع معًا. لقد كشفت عن هشاشة النظام السياسي وعمق الأزمة الاجتماعية، لكنها في الوقت نفسه أظهرت صلابة الشعب السوداني وقدرته الفطرية على النهوض وسط الركام. إنها عاصفة بكل المقاييس، لكنها ليست نهاية البحر. فكما تصنع العواصف البحّارة الأقوياء، تصنع الكوارث الأمم التي تتعلّم من أوجاعها وتنهض بوعي جديد.
هذه الحرب الموجعة فتحت الباب أمام مراجعة شاملة لمعنى الوطن والقيادة والانتماء. فالقضية اليوم ليست من ينتصر في الميدان، بل من ينتصر في معركة البقاء الإنساني، ومن يعيد للسودان كرامته ووجهه الإنساني المشرق بعد أن غطاه غبار الحرب.
ولعلّ أعظم ما يمكن أن يخرج من هذه العاصفة هو ميلاد وعيٍ وطني جديد، لا يقوم على الخوف أو الثأر، بل على الإيمان بأننا شعب واحد قُدّر له أن يعيد كتابة تاريخه بيده. فالمستقبل لن يصنعه السلاح ولا الخطابات الحزبية، بل العقول التي تفكر بصفاء، والقلوب التي تؤمن بالعمل الجماعي، والضمائر التي تضع الوطن فوق المصالح.
إن السودان اليوم بحاجة إلى مشروع وطني جامع، يعيد ترتيب الأولويات، ويضع الإنسان في قلب التنمية. مشروع يستلهم من البحر دروسه: التوازن، الانفتاح، الصبر، والقدرة على تجاوز العواصف دون أن يفقد الاتجاه. نحن بحاجة إلى دولةٍ جديدة لا تقوم على الثروة أو القوة، بل على العدالة والمعرفة والمواطنة الحقة.
الشعب هو البحّار الحقيقي
القوة التي تتحدث عنها عبارة «العواصف تصنع البحّارة الأقوياء» ليست قوة السلاح، بل قوة الصمود اليومي. السودانيون الذين يزرعون رغم القصف، والأطباء الذين يعالجون الجرحى بلا مستشفيات، والمعلمون الذين يدرّسون الأطفال في الخيام، هم “البحّارة الأقوياء” الذين تصنعهم العواصف لا المدارس.
في الميادين، في الأحياء المنكوبة، في الأسواق التي أعيد فتحها رغم الخوف، يتجلّى جوهر القوة السودانية. إنها إرادة الحياة في وجه الفناء.
من رحم الفوضى يولد جيل جديد يرفض الخضوع ويعيد تعريف الشجاعة. فالشجاعة اليوم ليست القتال، بل القدرة على البناء وسط الخراب، والإيمان بالحياة وسط الدمار، والتمسّك بالقيم وسط التلوث الأخلاقي الذي خلّفته الحرب.
الشعب الذي حفظ نفسه من الانهيار رغم غياب الدولة هو نفسه من يجب أن يقود إعادة الإعمار. فالدولة لا تُقام بالمراسيم، بل تُبنى على أكتاف من لم يغادروا مواقعهم الأخلاقية عندما غابت المؤسسات.
الإعمار يبدأ من الذات لا من الخارج
التجارب السابقة أثبتت أن إعادة الإعمار لا تنجح عندما تأتي كمنحة مشروطة من الخارج، لأنها غالبًا ما تحمل في طيّاتها مشاريع الهيمنة والوصاية.
الإعمار الحقيقي يبدأ من الداخل، من إعادة بناء الإنسان قبل البنيان، ومن تحويل الألم إلى طاقة عمل وإبداع.
الرؤية الوطنية للإعمار يجب أن تستند إلى مشاركة العقول السودانية في الداخل والشتات، وأن تكون بعيدة عن الانقسامات الأيديولوجية والمصالح الضيّقة.
الاعتماد على الذات لا يعني الانغلاق، بل يعني أن يكون القرار الوطني هو البوصلة، وأن تُستخدم المساعدات الخارجية كأدوات دعم لا أدوات تحكّم.
ولن ينجح الإعمار إلا عندما يتحول إلى مسؤولية جماعية يعيشها الناس لا مشروعًا حكوميًا مؤقتًا. فالإعمار ليس بناء الجدران فقط، بل إعادة ترميم الضمائر والعلاقات، وصوغ أخلاقٍ جديدة تحكم العلاقة بين المواطن والدولة.
لا للتطرف ولا للوصاية
حين تنهار الدولة، تزدهر مساحات التطرف والارتهان للخارج. الإرهاب لا يأتي من فراغ، بل من الفقر واليأس وفقدان الأمل. والتدخلات الأجنبية لا تجد موطئ قدم إلا حين يغيب المشروع الوطني الجامع.
بناء دولة مدنية قوية هو السدّ المنيع أمام كل ذلك. الدولة المدنية ليست شعارًا نخبويًا بل ضرورة بقاء، لأنها الضمانة الوحيدة ضد الفساد والوصاية.
حين يتوحد المجتمع حول العدالة والمساءلة والشفافية، تُغلق الأبواب أمام من يحاول استغلال الدين أو القبيلة أو الفقر لسرقة المستقبل.
لقد جرّب السودان ثلاثة عقود من الحكم الذي اتخذ الدين وسيلة للسلطة، وها هو اليوم يدفع الثمن مضاعفًا. ومع ذلك، فإن هذه الحرب المأساوية منحتنا فرصة نادرة لتطهير الوعي من أوهام القداسة السياسية، وإعادة العلاقة بين الدين والوطن إلى معناها الإنساني الصحيح: فالدين رافعة للأخلاق لا مظلة للطغيان، والوطن بيت الجميع لا معسكر أحد.
البحر السوداني يحتاج إلى بوصلة جديدة
لقد أبحر السودان طويلًا في بحر من التناقضات: قبيلة ضد قبيلة، جهة ضد جهة، نخبة ضد شعب، عسكر ضد مدنيين. لكن العاصفة الأخيرة كشفت أن السفينة واحدة، وأن الغرق لا يستثني أحدًا.
البوصلة الجديدة يجب أن تشير إلى الوطن كقيمة جامعة، لا إلى الأيديولوجيا كقيد، ولا إلى الخارج كمنقذ.
فلا خلاص في تقليد الآخرين، ولا في انتظار المساعدات، بل في بناء مشروع وطني مستقل يستند إلى التعليم، والبحث العلمي، وتمكين المرأة والشباب، وإصلاح المؤسسات على أسس مهنية شفافة.
القيادة الجديدة التي يحتاجها السودان ليست قيادة الولاءات، بل قيادة الكفاءات؛ قيادة ترى السلطة تكليفًا لا تشريفًا، وتدير الوطن بعقلٍ إداري لا بعصبية أيديولوجية.
من الألم إلى الرجاء
رغم النزوح والجراح والانهيار، لا يزال في السودان نبض حياة. العواصف التي دمّرت المدن يمكن أن تكون أيضًا فرصة لإعادة تخطيطها على أسس حديثة وأكثر عدالة واستدامة.
الأجيال التي فقدت المدارس يمكن أن تتعلم من جديد عبر التكنولوجيا والابتكار، ليولد تعليمٌ يليق بعصرٍ رقمي وبأمةٍ قررت أن تتجاوز الحرب نحو الوعي.
من كل مأساة يمكن أن يولد مشروع وطني جديد، إذا أدركنا أن الشفاء لا يأتي من الخارج بل من داخل الجرح نفسه. فكما تنبت الوردة من شقّ الصخر، يمكن أن تنبت النهضة من تحت الركام، إذا امتلكنا الشجاعة لنتسامح والعقل لننظّم والإرادة لنبدأ من جديد.
إن السودان لا يحتاج فقط إلى المال لإعماره، بل إلى المعنى، إلى وعيٍ يربط الذاكرة بالأمل، ويحوّل الحزن إلى تصميم.
المستقبل يكتبه البحّارة الجدد
جيل ما بعد الحرب هو من سيعيد رسم خريطة السودان. جيل لا يخاف الموج لأنه وُلد في العاصفة.
جيل يؤمن بالعمل لا بالشعارات، بالمبادرات المجتمعية لا بالانتظار، بالشراكات العادلة لا بالوصاية.
هؤلاء هم “البحّارة الجدد” الذين تعمّدوا بالألم وتطهّروا بالصبر، والذين أدركوا أن النجاة ليست في الهروب من البحر، بل في إتقان الإبحار وسط أمواجه.
السودان لا يحتاج إلى وصاية جديدة، بل إلى ثقة جديدة ، بالذات والعقول والقدرة على التحول من الضحية إلى الفاعل. فكل أمة كبرى مرّت بليلها الطويل قبل أن تشرق شمسها، والسودان اليوم يسير في طريق الآلام نحو ولادةٍ جديدة.
نحو بحرٍ جديد
“العواصف تصنع البحّارة الأقوياء” ليست عبارة شعرية بل حقيقة وجودية. فهذه العاصفة التي أنهكت البلاد منحتها أيضًا فرصة الوعي والنضج.
لقد تعلّم السودانيون أن القوة الحقيقية ليست في المدفع، بل في البصيرة، وفي التنظيم، وفي الحلم المشترك.
حين يتعلّم السودان من عواصفه لا أن يهرب منها، سيعرف كيف يحوّل الرياح إلى طاقةٍ تدفعه إلى الأمام. وعندما نؤمن أن الألم ليس نهاية الطريق بل بدايته، سنكتشف أن الوطن لم يُهزم، بل يستعد لولادةٍ جديدة من رحم البحر المائج نحو بحرٍ أكثر أمانًا وعدلًا ووعيًا. وعندما نؤمن أن هذه العاصفة، مهما كانت عاتية، هي التي ستمنحنا البصيرة لبناء وطنٍ عادلٍ ومستقلٍ ومزدهر، عندها فقط سنقول إننا خرجنا من الحرب لا مهزومين، بل أكثر إنسانيةً وصلابة.
فمن رحم البحر المائج يولد البحر الآمن، ومن قلب العاصفة يولد السودان الجديد، وطن يبحر نحو الضوء بثقةٍ، يقوده بحّارةٌ تعمّدوا بالمطر، وتطهّروا من الخوف، وعاهدوا أنفسهم أن يجعلوا من كل موجةٍ عاتية جسرًا نحو الشاطئ، لا جدارًا من اليأس.
لقد آن الأوان لأن نعيد تعريف القوة. ليست القوة في امتلاك السلاح أو المال، بل في امتلاك الرؤية، وفي بناء مؤسسات تحترم الإنسان وتضعه في قلب الوطن. إن السودان لن ينهض بالإغاثات ولا بالوعود، بل بإرادة أبنائه الذين واجهوا الحرب بالعزيمة لا بالبكاء، والذين فهموا أن النهوض يبدأ من داخلهم، لا من الخارج. إن هذه العاصفة القاسية منحتنا درسًا ثمينًا: أن الأمم لا تُبنى في السكون بل في العصف، حين تُختبر الأخلاق وتنكشف المعادن. فإذا خرج السودان من هذه التجربة بإيمانٍ أعمق بالعدالة، ورفضٍ للظلم، وتمسّكٍ بالوحدة، فذلك يعني أنه بدأ طريق الخلاص.
شارك المقال
