الإدارة العامة في زمن الانهيار: تأملات في فكر أوين هيوز وسياق الحرب السودانية 

12
محمد كمير جاهز

محمد كمير

خبير اقتصادي

• في كتابه «Public Management and Administration: An Introduction»، يعالج أوين إي. هيوز قضايا الإدارة العامة من منظور تطوري يربط بين النماذج التقليدية والنظريات الحديثة، ويقدم إطاراً لفهم التحولات التي شهدها القطاع العام في عدد من الدول الغربية. يركز هيوز على التحول من البيروقراطية الكلاسيكية نحو الإدارة العامة الجديدة (New Public Management)، التي تقوم على مبادئ الكفاءة، والمساءلة، والتركيز على النتائج، وتبنّي أدوات وأساليب مستوحاة من القطاع الخاص في إدارة المرافق العامة.

يعرض الكتاب نقداً للبيروقراطية باعتبارها نموذجاً تقليدياً ركّز على القواعد والتسلسل الهرمي والامتثال، لكنه فشل في التكيّف مع بيئة دائمة التغيّر.

بالمقابل، يشيد النموذج الحديث بالكفاءة وتقديم الخدمة للمواطن بوصفه «عميلاً»، لا مجرد متلقٍّ للقرارات.

لكن هيوز لا يقدّم هذا التحول بوصفه نهاية القصة، بل يوضح أن الإدارة العامة ليست مجرد تطبيق لنماذج جاهزة، بل تحتاج إلى التكيّف مع السياقات السياسية والاجتماعية لكل دولة، مما يجعل التجربة نسبية وغير قابلة للاستنساخ الحرفي.

عند إسقاط أفكار هيوز على الواقع السوداني، وخصوصاً في ظل الحرب المستمرة منذ أبريل 2023، نجد أن السودان يعيش حالة من الانهيار المؤسسي شبه الكامل، حيث توقفت العديد من الهياكل الإدارية عن العمل، وانقطعت سلاسل القيادة والتنفيذ في معظم المؤسسات العامة.

في مثل هذا السياق، تغدو إدارة المؤسسات العامة تحدياً وجودياً لا إدارياً فقط، إذ إن الاستمرارية نفسها باتت مهددة، وليس فقط الكفاءة أو الفاعلية.

الإدارة العامة في السودان، قبل الحرب، كانت تعاني أصلاً من ضعف الهيكل البيروقراطي، وتغوّل السياسة على الخدمة المدنية، وغياب الشفافية والمساءلة، مما جعل مؤسسات الدولة غير قادرة على الاستجابة الفاعلة للتحديات المتراكمة.

ومع اندلاع الحرب، تفاقمت الأزمات: تمزقت أوصال الدولة، وتحوّلت المؤسسات إلى جزر معزولة.

وهذا يعيدنا إلى واحدة من أبرز القضايا التي يناقشها هيوز: هل يمكن للإدارة العامة أن تبقى حيادية وتقدم الخدمة في ظل نزاع سياسي حاد؟ وهل تبقى مفاهيم الكفاءة والمساءلة قائمة حين تتوقف الدولة عن العمل كمنظومة موحّدة؟

في ظل هذه الفوضى، يصبح التفكير في إعادة بناء الإدارة العامة مسألة استراتيجية، لا فنية فقط. ما يحتاجه السودان اليوم ليس فقط إصلاح مؤسسات الدولة، بل إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وترسيخ ثقافة الخدمة العامة، وربما التفكير في نموذج إداري هجين، يجمع بين المرونة الميدانية التي يفرضها الواقع المتأزم، وبين مبادئ الحوكمة الرشيدة التي تنادي بها الأدبيات الحديثة.

من هذا المنظور، يبدو كتاب هيوز دليلاً فكرياً بالغ الأهمية لمن يفكر في مستقبل الدولة السودانية ما بعد الحرب، إذ يذكّرنا بأن الإدارة العامة ليست مجرد وظيفة تقنية، بل هي في جوهرها تعبير عن رؤية سياسية واجتماعية، ومقياس لمدى قدرة الدولة على البقاء والاستجابة والتجدد.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *