الأونُنُ بن الأونُنُ

271
عوض الكريم فضل المولى

عوض الكريم فضل المولى جاد الله

كاتب صحفي

• نشأتُ في زمنٍ طيّب، كان فيه الناس أكثر ألفة، والقلوب أوثق صلة. وتوارثنا أخلاقًا وقيمًا، وعاداتٍ وتقاليد كثيرة، وعاصرنا أجيالًا سابقة، وتفاعلنا مع أجيالٍ لاحقة.

السعيد من أدرك جدوده وحبوباته، القريبين والبعيدين، وعاش حياته وحياة من سبقه، وكذلك الجيل الجديد.

من الذاكرة، أن البيوت كانت فيها الجدود، والحبوبات، وكانت هناك غرفٌ مخصصة لكبار السن، والكراكيب (جمع كركوبة)، وهم الهرم من البشر الذي لا قوّة له على فعل شيء، ولا الحركة.

كان «الخرف» – أي التقدّم في السن الذي لا يعلم صاحبه من بعد علمٍ شيئًا – يأتي في أعمار متقدمة جدًا. في الزمن السابق، ما عرفنا «الخرف المبكر» إلا مؤخرًا. وعشنا الرعاية والاهتمام بهذه الشريحة من الأهل والجيران.

بل كان من العيب، إذا قدِم أحدهم من السفر أو الغياب الطويل، ألّا يزور هذه الشريحة «بيتًا بيتًا».

وكانوا مصدر التاريخ والحكمة، ومعرفة الأنساب، وعِين الخريف والشتاء والصيف. يروون الحكايات، منها الخرافية والأسطورية.

كانت البيوت عامرة بأصوات الضحك، وأحاديث الجدّات والعمّات، وكانت البيوت مفتوحة على بعضها، أو لا تحدها الحيشان والصرائف. وكان اجتماع الأسرة عادة في الفطور والغداء والعشاء طقسًا لا يُؤجل ولا يُلغى.

نجلس معًا على صحنٍ واحد، ونتقاسم القهوة والحكايات، ننبش في الماضي، ونروي القصص والأنساب والطرائف، كأننا ننسج خيوط دفء لا تنقطع.

في تلك المجالس، تكررت كثيرًا قصة غريبة، تبدأ دومًا بسؤال جدّي لنا نحن الأحفاد، منها:

ــ «أتدرون من هو الأونُنُ بن الأونُنُ؟»

كنا نهزّ رؤوسنا ونتبادل نظرات الحيرة، فيجيبنا ضاحكًا:

ــ «هو الأبلم بن الأبلم! إذا جلس تكوّم، وإذا تكلّم تُلُوم!». 

ثم يتابع ضاحكًا، وهو يشير بيده في الهواء:

ــ «ذاك هو العُوْقَة! يجلس بين الناس، ولكن لا أحد يفهمه، ولا يفهم هو ما يُقال!». 

كنا نضحك دون أن نفهم، ثم ننسى… لكنّ الزمن كفيل بأن يشرح لنا ما لم يقله جدي بلسانه.

مرّت الأعوام، ودارت الدنيا دورتها، وفهمتُ أخيرًا مَن هو الأونُنُ بن الأونُنُ.

هو ليس شخصًا واحدًا… بل أصبح حالة، سلوكًا، وربما وباءً اجتماعيًا!

إنه ذاك الذي تراه في المجالس، حاضرًا دائمًا، ولكن لا أحد يُشركه في الرأي.

لا يُستشار، ولا يُؤخذ بكلامه، وإن تكلّم ضجَّ المكان، ولكن بلا معنى.

لا يُسهم في جهد، ولا يشارك في عمل، لكنه يظهر في الصور، ويجلس في صدر المجالس.

إذا دُعي إلى وليمة، كان أول من يحضر، وآخر من يقوم.

وإذا غاب، ظهر فجأة وقت الطعام، كأن حاسة الشمّ لديه مدرّبة على روائح المناسبات.

والشاي والقهوة أهم اهتماماته في المناسبات!

تقول عنه الناس:

ــ «داك عُوْقَة… لا يضر، ولا ينفع، لكنه محسوب علينا ساي!». 

الأدهى والأمرّ، أن هؤلاء اليوم صاروا قادةً ومسؤولين!

وكتّاب رأي، ومحررين، ورؤساء تحرير، وملّاك صحف، ومتخذي قرار، ومحللين، ورؤساء أحزاب وحركات – مسلحة وغير مسلحة!

يملكون مالًا، ولا يفقهون في الشأن العام إلا الحظوة المُدلَّجة.

تسلّلوا إلى مواقع القرار، فغلب الضجيج على الفعل، وغلب الظهور على العمل.

صوتهم يملأ الإعلام، وخُطَبهم تُبث في كل ساعة، لكن إن نظرت إلى الأرض… لا ترى شيئًا.

وإن مرّت مناسبة وطنية أو محلية، ولم يُدعَ أحدهم، حضر من تلقاء نفسه!

حتى افتتاح «حلل التكايا» ومناسبات «السِمية»             (العقيقة ).

يبحث عن الكاميرا، عن الميكروفون، عن فرصة للظهور.

وإذا سأل أحد الحضور مستغربًا:

ــ «من هذا؟ من المتكلم؟». 

أجاب الجميع بنبرة يعرفونها جيدًا رغم الضجيج والصياح المؤيد:

ــ «ذاك هو الأونُنُ بن الأونُنُ!»

ربما لن ينقرض الأونُنُ، فله في كل زمان صورة وصوت.

ولكن الأمل أن يعرفه الناس، فلا يُسلّمونه مفاتيحهم، ولا أقدارهم.

وأن يدركوا أن المجتمعات لا تُبنى بالصوت العالي… بل بالفعل الهادئ، والإخلاص.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *