استشراف المستقبل: علم إدارة الغد … اليوم

211
pic000
Picture of د. إيهاب عبد الرحيم الضوي أحمد

د. إيهاب عبد الرحيم الضوي أحمد

اختصاصي تحليل بيانات وخبير إحصاء – عضو هيئة تدريس بالجامعة العربية المفتوحة بدولة الكويت

• في عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة، لم تعد القدرة على التنبؤ بالمستقبل كافية لمواكبة التحديات التي تفرضها المتغيرات السريعة والمعقدة. إن الاقتصار على تحليل الماضي والحاضر لرسم المستقبل لم يعد مجديًا في بيئة مليئة بعدم اليقين، بل أصبح من الضروري تبني منهج علمي استباقي يمكن من فهم الاتجاهات الكبرى، وتحليل التأثيرات المحتملة، واتخاذ قرارات مرنة مبنية على سيناريوهات متعددة. ومن هذا المنطلق، يبرز مفهوم «استشراف المستقبل» كأداة استراتيجية لا غنى عنها لبناء السياسات، وتوجيه الاستثمار، وتحقيق التنمية المستدامة. عليه وفي ظل التحديات المتلاحقة التي يشهدها عالمنا المعاصر، أصبح من الصعب التنبؤ بالمستقبل بناءً على المعطيات الحالية فقط، خاصة مع تنامي الأزمات المناخية، والتغيرات التكنولوجية المتسارعة، والتحولات الديموغرافية والاجتماعية. هذه المعطيات دفعت المؤسسات الدولية والحكومات إلى تبني «استشراف المستقبل» كأداة مركزية في تصميم السياسات العامة، وضمان جاهزيتها للأحداث المستقبلية، بما في ذلك السيناريوهات غير المتوقعة.

ما هو استشراف المستقبل؟

استشراف المستقبل هو عملية علمية منهجية تهدف إلى استكشاف الاتجاهات الناشئة، وتحليل المتغيرات المؤثرة، وبناء تصورات مستقبلية تساعد على اتخاذ قرارات استراتيجية مدروسة. يختلف الاستشراف عن التنبؤ في أنه لا يهدف إلى تحديد نتيجة واحدة مرجحة، بل يسعى إلى رسم مجموعة من السيناريوهات البديلة التي تأخذ بعين الاعتبار عناصر عدم اليقين والتغيرات المفاجئة. كما يختلف عن التخطيط التقليدي في أنه لا يعتمد فقط على الإمكانات الحالية، بل يدمج الرؤية بعيدة المدى مع التحليل الاستراتيجي لاستشراف تحديات الغد وفرصه.

لماذا نحتاج الاستشراف اليوم  أكثر من أي وقت مضى؟

إن عالمنا الحالي يشهد اختفاء مهنٍ وظهور أخرى غير متوقعة، ومع التقدم الهائل في الذكاء الاصطناعي والروبوتات الحيوية، أصبح من الضروري تطوير رؤية استباقية تعزز من جاهزية الدول والمؤسسات. الاستشراف ليس فقط لمواجهة التحديات، بل لاقتناص الفرص التي لا تظهر إلا لمن يستعد لها. فالمؤسسات التي تدمج الاستشراف ضمن استراتيجياتها تكون أكثر قدرة على التعامل مع المفاجآت، وأكثر مرونة في اتخاذ قرارات سريعة ومدروسة، وأقدر على التكيف مع التحولات العالمية. من هنا، يمكن القول إن الاستشراف أصبح لغة المستقبل، ومن لا يتقنها يعرض نفسه ومؤسسته للتهميش أو التآكل البطيء.

ومهما يكن من أمر، ففي ظل تسارع التغيرات التكنولوجية والاجتماعية والبيئية، أصبحت الحاجة إلى التفكير المستقبلي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فعندما تتغير أنماط العمل، وتظهر وظائف لم تكن موجودة قبل سنوات قليلة، وتواجه المجتمعات أزمات صحية أو بيئية غير متوقعة، فإن المؤسسات التي لا تمتلك تصوراً واضحاً للمستقبل تجد نفسها أمام تحديات معقدة قد تؤثر على بقائها وفعاليتها. ولهذا، فإن استشراف المستقبل لا يعتبر رفاهاً فكرياً، بل هو أحد مكونات الحوكمة الرشيدة والإدارة الذكية التي تستبق التحديات وتقتنص الفرص.

أدوات استشراف المستقبل

تتعدد أدوات استشراف المستقبل بحسب نوع التحليل والمجال المستهدف. ومن أبرز هذه الأدوات:

تحليل السيناريوهات، الذي يساعد على تصور مسارات بديلة لما قد يحدث مستقبلاً؛ وطريقة دلفي، التي تعتمد على استطلاع آراء مجموعة من الخبراء حول قضية محددة للوصول إلى توافق مستقبلي؛ وتحليل القوى المحركة، الذي يرصد العوامل الرئيسية المؤثرة في التغيير؛ بالإضافة إلى مصفوفة التأثير وعدم اليقين، التي تساعد في تصنيف القضايا حسب درجة خطورتها واحتمالية تحققها. ومن الأدوات التفاعلية أيضاً «عجلة المستقبل»، التي تستخدم لتحليل تأثير حدث ما على المستويات المباشرة وغير المباشرة. كما ظهرت مؤخراً أدوات رقمية تستفيد من الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات الضخمة والتعرف على الأنماط الخفية في السلوك الاجتماعي أو الأداء الاقتصادي، وهو ما يعزز قدرة المؤسسات على توقع التحولات قبل وقوعها الفعلي.

أين يستخدم استشراف المستقبل؟

تتسع مجالات تطبيق استشراف المستقبل لتشمل مختلف القطاعات الحيوية. في قطاع التعليم، يساعد الاستشراف على تطوير مناهج تعليمية تتماشى مع مهارات المستقبل ومتطلبات سوق العمل. وفي القطاع الاقتصادي، يستخدم لرصد توجهات الأسواق، وتحديد القطاعات الصاعدة، والتخطيط لتنوع مصادر الدخل. أما في المجال الصحي، فيُسهم في التنبؤ باحتياجات الرعاية الصحية ومواجهة الأوبئة. كما يعتبر أداة أساسية في مجالات الأمن، والتخطيط الحضري، والزراعة، حيث يمكّن صناع القرار من تصميم سياسات مستجيبة للتغيرات المناخية والديموغرافية والتكنولوجية. تم تطبيق الاستشراف بنجاح في مجالات متعددة. في قطاع التعليم، تم تطوير مناهج تعليمية تستجيب لمتطلبات سوق العمل المستقبلي. وفي قطاع الصحة، أتاح الاستشراف للحكومات بناء قدرات استباقية لمواجهة الأوبئة، كما حدث في جائحة كوفيد-19.

في مجال الأمن، تستخدم أدوات الاستشراف لتحليل التهديدات السيبرانية وتحركات التطرف العنيف. أما في الزراعة، فقد أسهم الاستشراف في توقع أثر التغير المناخي على الأمن الغذائي. وتعمل العديد من الحكومات على إدماج الاستشراف في السياسات العمرانية، مثل تخطيط المدن الذكية والمستدامة.

نماذج دولية ناجحة في استشراف المستقبل

من أبرز الدول التي نجحت في دمج الاستشراف ضمن منظومتها الوطنية نجد فنلندا وسنغافورة، وهما مثالان ملهمان لكيفية استخدام الفكر المستقبلي كأداة للحوكمة الرشيدة واتخاذ القرار القائم على البيانات والاحتمالات لا على ردود الأفعال اللحظية.

فنلندا: الاستشراف كأداة ديمقراطية لصنع السياسات

تعتبر فنلندا من أوائل الدول في العالم التي تبنت نهجاتً مؤسسياً ا لاستشراف المستقبل، حيث أنشأت المجلس الوطني للفكر المستقبلي (National Foresight Network)، التابع للبرلمان الفنلندي. هذا المجلس لا يضم فقط سياسيين، بل يشمل أيضًا خبراء أكاديميين، وممثلي القطاع الخاص، والمجتمع المدني، مما يعكس طبيعة استشرافية تشاركية شاملة.

يقوم المجلس بإصدار تقارير مستقبلية كل أربع سنوات تستخدم كمرجع رئيس عند صياغة السياسات العامة والخطط الوطنية طويلة الأجل. كما يتم تخصيص جلسات برلمانية لمناقشة هذه التقارير، مما يعزز دمج الفكر المستقبلي في التشريعات.

تركز تقارير فنلندا الاستشرافية على مجالات محورية مثل: التغير المناخي، التقدم التكنولوجي، التعليم المستقبلي، والصحة الرقمية. كما أن فنلندا تولي اهتمامًا خاصًا لتعليم الاستشراف في المدارس، حيث تدرس مفاهيم التفكير النقدي والمستقبلي في مراحل التعليم العام، لضمان بناء أجيال تمتلك رؤية استراتيجية بعيدة المدى.

سنغافورة: صناعة قرارات الدولة من قلب التفكير المستقبلي

أما سنغافورة، الدولة المدينة الصغيرة ذات الموارد المحدودة، فقد أدركت منذ عقود أن موقعها الجغرافي وحجمها يفرضان عليها الاعتماد على التخطيط طويل الأجل والتفكير الاستشرافي لضمان البقاء والتفوق. أنشأت سنغافورة مركز الاستشراف الاستراتيجي (Centre for Strategic Futures)، وهو وحدة تابعة مباشرة لمكتب رئيس الوزراء. يتمثل دور المركز في مراقبة المتغيرات العالمية، وبناء سيناريوهات مستقبلية، وتحليل المخاطر والفرص غير المرئية. ويُعتبر المركز الذراع الفكرية للحكومة في التعامل مع التحديات بعيدة المدى. واحدة من أبرز ممارسات هذا المركز أنه يخصص جزءاً من جهوده لما يعرف بـ «الاحتمالات السوداء –  (Black Swans) أي الأحداث غير المتوقعة ذات الأثر العميق – ويجري تدريبات داخلية للمسؤولين الحكوميين على كيفية التفكير في «ماذا لو…» بخصوص قضايا مثل تغير المناخ، الانهيارات الاقتصادية، أو التطورات الجيوسياسية المفاجئة.

كما تعتمد سنغافورة على أدوات رقمية وتحليلات بيانات ضخمة لرصد «الإشارات الضعيفة» التي قد تتحول لاحقاً إلى اتجاهات قوية، وهو ما يمكّنها من اتخاذ قرارات استباقية قبل ظهور الأزمات.

التحديات التي تواجه الدول النامية في تطبيق الاستشراف

رغم الأهمية المتزايدة لاستشراف المستقبل كأداة استراتيجية في التخطيط وصنع القرار، إلا أن تطبيقه في الدول النامية يواجه عدداً من التحديات البنيوية والمنهجية التي تعيق فاعليته واستدامته. من أبرز هذه التحديات ضعف الوعي المؤسسي بأهمية التفكير المستقبلي، حيث لا يزال ينظر إليه في كثير من المؤسسات كترف فكري أو نشاط ثانوي لا يمثل أولوية. كما يعد غياب البيانات الدقيقة والمحدثة عائقاً كبيراً أمام تحليل الاتجاهات واستقراء السيناريوهات بشكل علمي.

وتعاني هذه الدول أيضاً من نقص الكفاءات والخبرات المتخصصة في مجالات الاستشراف وتحليل المستقبل، وهو ما يضعف من قدرة المؤسسات على استخدام الأدوات والمنهجيات الحديثة بشكل فعّال. وإلى جانب ذلك، فإن الطابع البيروقراطي السائد في العديد من الإدارات الحكومية يقاوم التغيير، ويفضل النماذج التقليدية للتخطيط القصير المدى على حساب التفكير المرن والمستقبلي.

كما أن ضعف التنسيق والتكامل بين القطاعات الحكومية والجامعات والقطاع الخاص، يقلل من فعالية الجهود المبذولة في هذا المجال، ويعرقل تبادل المعرفة والخبرات الضرورية لبناء رؤية وطنية شاملة للمستقبل. ولمواجهة هذه التحديات، لا بد من تبني مقاربة متكاملة تعزز ثقافة الاستشراف، وتستثمر في بناء القدرات، وتكرس التفكير طويل الأجل في جميع مفاصل الدولة.

استشراف المستقبل في السودان: ضرورة وطنية لا ترف فكري

بالنسبة لوطننا الحبيب السودان- وبعد انقشاع الغمة الحالية بمشيئة الله- تتضاعف أهمية استشراف المستقبل نتيجة التحديات المتراكمة والمتداخلة التي تواجه الدولة على مختلف الأصعدة. فمع ما يشهده السودان من تحولات سياسية واقتصادية ومجتمعية، يصبح من الضروري امتلاك أدوات علمية تساعد في رسم خارطة طريق مستقبلية واقعية ومرنة. إذ أن القضايا المتعلقة بالتنمية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وإصلاح التعليم، وتحقيق الأمن الغذائي، كلها تحتاج إلى رؤية استشرافية طويلة المدى تأخذ في الحسبان السياق المحلي والتغيرات الإقليمية والدولية.

كما أن استشراف المستقبل يوفر إطاراً حيوياً لبناء السياسات العامة، وتوجيه الموارد، وتعزيز دور الجامعات ومراكز البحث في صنع القرار الوطني. ويعتبر تأسيس وحدات أو مراكز وطنية للاستشراف خطوة بالغة الأهمية لتمكين السودان من مواجهة المخاطر المستقبلية والاستعداد للفرص القادمة. ويمثل إدماج الاستشراف في مؤسسات الدولة والجامعات والمجتمع المدني بداية حقيقية لبناء سودان الغد على أسس معرفية واستباقية.

توصيات لصناع القرار في السودان

لضمان استدامة جهود استشراف المستقبل في السودان، يمكن تبني عدد من التوصيات العملية، منها:

1. تأسيس مجلس وطني للاستشراف بارادة وادارة وطنية خالصة بعضوية ممثلين من الوزارات، الجامعات، القطاع الخاص، والجهات ذات الصلة.

2. إدماج وحدات الاستشراف في الوزارات الكبرى (التعليم، الاقتصاد، الصحة، التخطيط).

3. تمويل بحوث علمية تطبيقية في مجالات الاستشراف والسياسات العامة.

4. إدخال مساقات دراسية حول التفكير المستقبلي في الجامعات السودانية وادماج الأنظمة الذكية في هذه المساقات بمختلف الكليات لتغيير النمط التقليدي للطالب الخريج من الجامعات السودانية.

5. تطوير قاعدة بيانات وطنية للاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية.

6. تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية ومراكز الاستشراف العالمية.

نحو بناء مستقبل أكثر استعداداً

إن تبني ثقافة استشراف المستقبل في مؤسسات الدولة السودانية، وفي مؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني، يُعد استثماراً في الوعي الجماعي. فالمجتمعات التي تستشرف مستقبلها لا تترك مصيرها للصدفة أو للتفاعلات اللحظية، بل تصنع طريقها نحو التقدم بحكمة ورؤية. ومن هنا، يجب أن تبدأ الجامعات والمراكز البحثية في السودان بتضمين مناهج تعليمية حول الاستشراف، وتشجيع البحوث التطبيقية التي تدمج هذا الفكر في السياسات العامة والخطط التنموية. ويعتبر إطلاق مبادرات وطنية في هذا المجال خطوة ضرورية لبناء دولة قوية، ومرنة، وقادرة على مواكبة التحولات العالمية بثقة وكفاءة.

في ظل هذه المعطيات، فإن نشر ثقافة استشراف المستقبل وتمكين الكوادر الوطنية في هذا المجال لا يعتبر مسألة اختيار بقدر ما هو ضرورة استراتيجية تضع السودان في مسار البناء والاستدامة، وتعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع من منطق «الاستجابة للأزمات» إلى منطق «الجاهزية الاستباقية» و»التحكم الذكي بالمصير».

 

شارك الدراسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *