
م. معتصم تاج السر
كاتب صحفي
• حين يتأمل المرء نفسه في مرآة الزمن، يكتشف أنّ العمر لا يرحل دفعة واحدة…!
بل يتسلل بهدوء كما يتسلل النسيم عبر نافذة نصف مفتوحة، فيترك خلفه خطوطاً رفيعة على الوجه، وذكريات تتكاثر كالأوراق في خريفٍ طويل.
إنه الانسحاب الخفي للعمر، ذاك الذي لا نشعر به إلا فجأة حين نفاجأ أن أعمارنا قد تجاوزت الخمسين، ثم أطلّت على عتبات الستين، وبدأت إشارات السبعين تلوح في الأفق.
في زحمة الحياة وانشغالاتها، نظنُّ أننا باقون في شباب ممتد، حتى نجد أنفسنا وقد صرنا «عمّاً» أو «خالة»، ويخاطبنا الباعة بلقب «يا حاج» و»يا حاجة»، ويُفسح لنا الشباب المقاعد في المتاجر والمواصلات.
نبتسم لهم شاكرين، لكن داخلنا شيء يتساءل: متى تغيّر كل هذا..!؟ متى تبدلت النظرات..!؟
إنها معاملة مميزة، لكنها تحمل في طياتها تمييزاً صامتاً، يذكّرنا بأن العمر يسير نحو الضفة الأخرى.
ومع ذلك، هناك نافذة مضيئة لا ينبغي أن نغفلها.
حين نتأمل سيرة سيد الخلق سيدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- نرى أن الوحي ابتدأ في الأربعين، وأنه جاهد وحمل همّ الرسالة في الخمسين وما بعدها.
ونجد أم المؤمنين السيدة خديجة- رضي الله عنها- في الأربعين قمة العطاء والحُبّ والأمومة.
أيقنتُ أن العمر ليس بالأرقام التي يسجلها عداد الأيام، بل بما نحمله في القلب من حياة، وما نزرعه في الدرب من أثر.
وعندما بلغتُ الأربعين نظرتُ لما مضى، فأدركت أنه أكثر من النصف، وهو النصف الأكثر حيويةً وشباباً.
لكن منذ تلك اللحظة بدأت أردد قول الله تعالى:
(حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
وأذكِّر نفسي دائماً أن الأربعين ليست محطة انحدار..!
بل هي عمر النبوة، عمر الوعي والنضج والاكتمال.
العمر الحقيقي هو ما نشعر به في داخلنا، وما نقرره نحن لا ما يفرضه الزمن.
هو لحظة رضا، وسكينة قلب، وإشراقة روح لا تذبل.
وما دمتَ قادراً على أن تتعلم، أن تحلم، أن تصلي وتبتهل وتبتسم، فأنت في شبابك مهما تقدمت بك السنين.
إن بلوغك الستين أو السبعين ليس خريفاً، بل هو ربيعٌ جديدٌ، بداية طورٍ آخر من أطوار العطاء والنضج.
فابدأ من الآن، اجعل للقرآن نصيباً من يومك فهو حياة لقلبك.
واحرص على السنن الراتبة، وصُمْ ثلاثة أيام من كل شهر، وناجِ ربك في جوف الليل حين ينام الجميع.
اجعل لك بصمة لا تُمحى، وازرع أثراً يبقى ذكرى بعد الرحيل.
فما العمر إلا فرصة محدودة لا يستحق أن يُهدر في الندم أو الحسرة، بل في بناء زادٍ يرافقك إلى الأبد.
ولنفرح،،، نعم لنفرح أننا ما زلنا نحيا يوماً جديداً نصلي فيه، نذكر الله ونتصدّق، نغرس وردة ونرسم ابتسامة، نفتح باب أمل.
كل دقيقة هبة لا تعود، وكنز يضيع إن لم نستثمره.
وأعظم الخسارات ليست في الأموال والمناصب…!
بل في أعمار أُهدرت بغير ذكر الله ولا عملٍ صالح.
إن يوم التغابن سيكون أشد الناس ندماً أولئك الذين أضاعوا أعمارهم في الغفلة…! حتى ولو دخلوا الجنة…!
فالدرجات هناك تُقاس بآية تُقرأ، أو تسبيحة تُقال، أو صدقة تُبذل.
فما بالنا نتهاون في هذه التجارة التي لا خسارة فيها..!؟
وصيتي لي ولكم: لنغتنم أعمارنا قبل أن تنسحب من بين أيدينا بصمت.
ولنردد مع قلوبنا لا بألسنتنا فقط قول الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم:
«خَيْرُ النَّاسِ مَن طالَ عمُرُه وَحَسُنَ عملُه».
وفي النهاية.. لستَ ابنَ سنينك، ولا أسيرَ أرقامٍ تتبدل في الهوية..!
بل أنت ابن قلبك الذي يخفق، وروحك التي تضيء مهما اشتعلت حولها شموع العمر.
دع خطواتك تمضي على الأرض برفق، ودع أثرك في القلوب يزهر كزهرة ربيعية لا تذبل.
فالعمر مهما انسحب خفية، يترك لنا فرصة أن نعيش كل لحظة كما لو كانت أول حُبّ وأول صلاة وأول ابتسامة.
كن عاشقاً للحياة.. حتى آخر نبضة.
اللَّهُمَّ اجعل عُمري في طاعتِك. وأنفاسي في ذِكرِك. وخُطواتي على دربِ رِضاك. واجعل خاتمتي سُجوداً بين يديك. وقُربي زاداً للقلب بين رحمتك وعفوك… آمين.
مودتي والسلام.
شارك المقال