• لم يَبْقَ فينا سوى الصمت الثقيل يعلو فوق أصوات الطلقات البعيدة. إنه ليس صمت الفراغ، بل صمت الامتلاء. صمتٌ مزدحم بالخوف والأسى والأشياء التي لا تُقال. هناك صمت الخوف… صمت جهوري.. تمسك به لتحمي أطفالك، لتحمي نفسك.. الكلمة قد تطلق الرصاصة.. فتبقى صامتاً.. تنظر إلى جارك وهو يصمت أيضاً.. تعرف ما في عينيه وهو يعرف ما في عينيك.. لا حاجة للكلمات.. هذا الصمت يشبه السجن، لكن جدرانه غير مرئية. وهناك صمت آخر. صمت التعب.. والأجساد المنهكة.. العقل يتعب من رؤية الموت.. القلب يتعب من سماع الأنباء السيئة.. فيأتي الصمت كمنقذٍ.. تصمت لأنك لم تعد تتحمل ثمن الكلام.. تصمت لأن الصراخ لم يعد مجدياً.. إنه صمت الاستنفاد، وهو أخطر أنواع الصمت، لأنه يعني أن الجروح قد دنت من تحولها إلى ندوب. وفي وسط هذا، هناك من يختار الصمت.. ليس خوفاً ولا تعباً، بل مقاومة.. يرفض أن يكرر لغة الأسلحة. يرفض أن يصرخ بلغة من يقتلون.. صمته هو بيانه.. هويته الأخيرة.. في عالم من الضجيج الدامي، يصبح الصمت هو الصوت الوحيد النظيف. العالم الخارجي يضيف طبقة أخرى من الصمت.. صمت اللامبالاة.. صمت الأخبار القصيرة التي تختفي بين ركام السياسة.. هذا الصمت يعزل المعاناة، ويجعلها تبدو وكأنها حادث بعيد، وليس مأساة إنسانية تستمر كل يوم. لكن تحت هذا الصمت كله، تستمر الحياة.. همسة بين أم وابنتها.. نظرة تفاهم بين غريبين.. دموع تسقط في الظلام… هذه هي الأصوات الحقيقية.. الصمت هو محيطها، لكن الهمسات هي التيارات العميقة التي تحمل قصة الشعب الذي يرفض أن يموت. الصمت ليس غياباً.. إنه حضور قوي ومؤلم لكل ما لا يستطيع أحد قوله بعد. ويبقى هناك صمت آخر، هو الأعمق والأقسى. ليس صمت من يختارون السكوت، بل صمت من سُلبوا حتى قدرة الصراخ.. صمت المرضى الذين لا دواء لهم، والجوعى الذين لا طعام في أفواههم، والعطشى الذين انقطع عنهم الماء. هذا الصمت ليس مقاومة ولا خياراً، إنه صوت الجسد حين يستسلم، وهمسة الروح وهي تودّع.. إنه الصمت الذي يسبق النهاية، وفيه تُرفع أدعية صامتة، بلعنات لا تُسمع، على كل من أوصلهم إلى هذا الدرك. في هذا الصمت، تُكتب أفظع الشهادات على فشل الإنسانية ذاتها. قد يبدو أن الصمت الآن هو اللغة الوحيدة التي تفهمها البنادق.. لكن حين تتحدث هذه اللغة ذاتها، فلن يكون بوسع أحد إسكاتها.