• في الساحة الغنائية السودانية برزت ظاهرة تستحق التوقف، وهي تقليد الفنانين الكبار، ليس فقط في الصوت والأداء، بل حتى في الحركات والانفعالات على المسرح. لم يعد الأمر مجرد تأثر طبيعي أو تمرين فني، بل تحوّل إلى مشروع قائم على اجترار الماضي وتقديمه بديلاً عن الإبداع.
ما يثير القلق أكثر، أن بعض أبناء الفنانين الكبار انخرطوا في هذه الظاهرة، فأخذوا يغنون أغاني آبائهم بنفس الأصوات والحركات، وكأنهم يُعيدون تمثيل الماضي بدل أن يصنعوا مستقبلهم الفني. ومؤسف أن هذا التقليد لا يُقدَّم كتحية وفاء، بل كمصدر دخل مادي… فالكثير من هؤلاء يُسوّقون تجارياً على أنهم «نسخ حديثة» من أولئك الكبار، ويتربحون من الإرث دون أن يضيفوا إليه شيئاً يُذكر.
الفن في جوهره تجربة متفردة، لا يمكن اختصارها في محاكاة تقنية أو استنساخ صوتي. فالجمهور لا يبحث عن صوت يُشبه صوتاً راحلاً، بقدر ما يبحث عن إحساس جديد يحمل روح العصر الذي نعيشه، ويعيد تشكيل القيم الجمالية بلغة حاضرة. أما أن يتحوّل الغناء إلى أداء تمثيلي أو يُستدرّ به الحنين ويُستغل فيه المجد السابق لتحقيق مكاسب، فذلك إفراغ خطير لمعنى الفن نفسه.
الأخطر أن هذا التقليد، مع تكراره، لا يُعيد إحياء التراث، بل يُفقده وهجه. فالأغنية الأصيلة لا تتكرر، وإن تكررت، فقدت دهشتها ‘’الفن دهشة». وإذا كان من الطبيعي أن يتأثر الفنان بمن سبقوه، فإن الأصالة تكمن في قدرته على التحوّل من متلقٍّ إلى خلّاق، ومن الصدى إلى الصوت.
إن ما يحتاجه الغناء السوداني اليوم ليس مزيداً من «الأشباه»، بل فنانون يُشبهون زمنهم ويُضيفون إلى تراثهم، لا من يذوبون فيه. فالفن الحقيقي لا يُخلَّد إلا حين يكون صدًى لصوت داخلي، لا تقليداً لصوتٍ آخر.