
محجوب الخليفة
كاتب صحفي
• لم يكن السودان يوماً مجتمعاً متفلتاً تسوده الجريمة، بل ظل على الدوام نموذجاً لمجتمع متماسك قوامه التسامح والتكافل، يستمد قيمه من الدين والأعراف السمحة. لكن ما خلفته حرب مليشيا الدعم السريع من فوضى ودمار، أدى إلى خلخلة النسيج الاجتماعي، وجعل المجتمع في مواجهة مباشرة مع موجة عاتية من الجرائم الخطيرة التي لم تكن مألوفة بهذا الشكل المخيف.
طوفان الجرائم بعد الحرب
بعد الطوفان المدمر الذي اجتاح المدن السودانية في أعقاب الحرب، تفشت جرائم القتل العشوائي، والاغتصاب الوحشي، والنهب والسلب المسلح، إلى جانب الضرب والاختطاف في الطرقات العامة. وتحولت المدن الآمنة إلى ساحات مفتوحة يعيث فيها المجرمون فساداً دون وازع ديني أو أخلاقي، مما ترك آثاراًِ نفسية كارثية في نفوس الضحايا وأسرهم.
أخطر ما في الأمر أن هذه الجرائم لم تعد حالات فردية معزولة، بل تحولت إلى سلوك جماعي في بعض الأحياء، مدفوعاً بروح الانتقام والإفلات من العقاب، مما ينذر بمستقبل مظلم إذا لم يتم تدارك الأمر عاجلًا.
الآثار النفسية المدمرة
الصدمة النفسية التي تلبست الضحايا لا تقل خطورة عن الجريمة نفسها. آلاف النساء تعرضن لانتهاكات مروعة، وأطفال شاهدوا آباءهم يُقتلون أمام أعينهم، وشباب فقدوا أحلامهم وهم يتنقلون بين مخيمات النزوح. هذه الجراح النفسية العميقة قد تتحول مع مرور الزمن إلى قنابل موقوتة، تدفع الضحايا إلى الانزلاق في عالم الجريمة، إما بدافع الانتقام، أو بسبب انعدام الأمل في العدالة.
الخشية من تمدد الجريمة
ما نخشاه بحق أن تتحول هذه الجرائم إلى سلوك اجتماعي معمم، يفرض منطقه على المجتمع، ويعيد تشكيل موازين القيم فيه. وعندها لن يصبح المجرم فرداً شاذاً، بل ستصبح الجريمة نفسها أمراً مألوفاً ومقبولاً. إذا وصل المجتمع إلى هذه المرحلة، فإن استعادة الاستقرار ستحتاج إلى عقود طويلة، ولن يكون القضاء على الجريمة ممكناً إلا عبر ثورة ثقافية واجتماعية شاملة.
الحلول الاستراتيجية المطلوبة
لمواجهة هذا الخطر الداهم، لا بدّ من وضع خطط استراتيجية عاجلة، تركز على المحاور التالية:
1- العقوبات الصارمة:
إعادة تفعيل منظومة العدالة الجنائية، وتشديد العقوبات على الجرائم الخطيرة، مع إنشاء محاكم خاصة للفصل في قضايا الجرائم المرتبطة بالحرب.
2- التوعية المجتمعية:
إطلاق حملات توعوية واسعة النطاق عبر وسائل الإعلام ومنابر المساجد والمدارس، تركز على قيم التسامح والتماسك الاجتماعي، وتحذر من مخاطر الجريمة وآثارها المدمرة.
3- إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي:
إنشاء جمعيات وطنية متخصصة في إعادة تأهيل الضحايا والمجتمع عموماً، عبر برامج الدعم النفسي والمصالحة الاجتماعية.
4- تحصين الشباب
إطلاق مبادرات شبابية توفر فرص العمل والتدريب للشباب، وتعيد دمجهم في المجتمع كمساهمين في بناء الوطن، بدلًا من أن يصبحوا أدوات للجريمة.
5- دور المجتمع المدني
تحفيز منظمات المجتمع المدني لتلعب دوراً أكثر فعالية في الرقابة المجتمعية، وتشكيل لجان شعبية للحفاظ على الأمن في الأحياء السكنية.
استعادة السودان كما كان
السودان ليس وطناً يتقبل الفوضى، ولن يسمح بوجود المتفلتين وأصحاب السلوك السيئ بين ظهرانيه. لكن مسؤولية استعادة المجتمع كما كان تقع على عاتق الجميع. المطلوب الآن هو تضافر جهود الدولة والمجتمع المدني والمواطنين في تشكيل سياج قوي ضد الجريمة والمجرمين، حتى يعود السودان مجتمعاً متماسكاً متسامحاً، يرفض العنف ويحتكم إلى القانون. ما أفسدته الحرب لن يصلحه إلا وعي الشعب، وإرادته في بناء غدٍ أفضل.
هذه المعركة ليست مجرد حرب على الجريمة، بل هي حرب من أجل استعادة الروح السودانية الأصيلة. السودان اليوم يقف على مفترق طرق: إما أن ينهض ليبني مجتمعه من جديد، أو يترك المجرمين يفرضون عليه قانون الغاب. القرار في يد الشعب، وإرادته قادرة على صنع المعجزات.
شارك المقال