الموسيقار الدكتور أنس العاقب يكتب فى حلقات لـ «فويس»: أيام في حضرة وردي  (1)

34
wardi02
Picture of بقلم: د. أنس العاقب

بقلم: د. أنس العاقب

  مقدمة لا بد منها 

• ( كلٌّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ وإنما تُـوَفَّـوْنَ أجورَكم يومَ القيامةِ فمَنْ زُحْزِحَ عنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الجنةَ فقدْ فازَ وما الحياةُ الدُّنيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُـرُورْ ) صدق الله العظيم ( آل عمران 185) 

ثم البقاء لله  وحده  والموت هو سبيل الأولين والآخرين ، ورحمة الله تغشى محمد وردى فقد كان فقده أليما ولا أغالى إن  قلت فى هذه اللحظات الحزينة الأسيانة أننا (بوفاة وردى لم نفقد فقط ذلك الفنان الضخم الخلاق بكل ما قدم من إبداع فى مجال الغناء على مدى خمسة عقود ولكن وردى رحمه الله كان يجسد موروثا حضاريا ثقافيا وفنيا عبر عشرات القرون التى شهدت أقدم الحضارات الإنسانية النوبية منها والفرعونيه ، الإفريقية أصلا ومنشأ ووجدانا وتأثيرا على الحضارات الكونية منذ عشرات القرون .)

 لقد ورث وردى شموخ وعنفوان وديناميكية تلك الحضارات القديمة ومع إمتداداتها وعصورها المسيحية والإسلامية وكذلك بالتاريخ السودانى الحديث نسبيا منذ قيام سلطنة الفونج فى فجر القرن السادس عشر وبمواقفها وتطلعاتها وطموحاتها وإنجازاتها وإخفاقاتها وفى خضم هذا التفرد الحضارى الذاتى تميزت شخصية  وردى  عن غيره ممن سبقوه ومن عاصروه فى تاريخ مسيرة  الغناء  وحتى على العظيمين خليل فرح وإسماعيل عبد المعين رحمهما الله ( وسنتعرض للمقارنة بين أولئك  العظماء الثلاثة فى مقام آخر) . 

ومن منطلق تركيبة الموروث الحضاري القديم  والمعاصر فإن وردى ملأ  لدنيا إبداعا وشغل الناس والساسة مكانة ومواقفا واستقل بمكانه بارزا فى كتب التاريخ وذاكرة الوجدان السودانى الإنسانى وستبقى كذلك إن شاء الله إلى ما يشاء الله .

حسنا … وهل هذا هو كل ما يدفعنى للكتابة عن وردى بعد رحيله؟ نعم ولكن ليس فقط لأننى من محبى وردى وعشاق فنه واحدا من بين الملايين  السودانيين والمنتشرين فى أركان الدنيا وكعضو نقابى وزميل دراسة تبادلنا رئاسة إتحاد طلاب معهد الموسيقى والمسرح فى مطلع سبعينات القرن الماضى وقُبَيْل ان يدخل سجن (كوبر) معتقلا بُعَـيْد إنقلاب المرحوم الرائد هاشم العطا فى 19 يوليو عام 1971 الذى أطاح بالمرحوم جعفر محمد نميرى زعيم إنقلاب مايو 1969 وكان وردى من أوائل مؤيدى ذلك  الإنقلاب  قصير العمر  وقد كنت من بين قلة الموقعين على برقية التأييد في إتحاد الفنانين بإسم الفنانين الديموقراطيين .

كما أكتب عن وردى كباحث وناقد وقد سبق أن كتبت عدة مقالات تحليلية بعد تخرجي عام 1974 فى عدة صحف حول عدد من أغنياته وأزعم هنا أن أحدا لم يسبقنى  عليها  من النقاد والكتاب سوى الموسيقار الباحث جمعه جابر رحمه الله  الذى انبرى مدافعا عن وردى على  إثر  نشر مقالاتى تلك التى كشفت فيها السرقات والإقتباسات الفنية فى ألحان عدد من المطربين ومن بينهم كان محمد وردى … 

وماذا تريد أن تقول إذن ؟ 

يسألنى هاجسى ويواصل التساؤل .. ؟ 

ألم تكن أنت من أكثر الكتاب هجوما ومشاكسة لوردى التى إبتدرتها فى أولى مقالاتك الصحفية عام 1974 تلك التى عرضتك  لهجوم كاسح من كتاب ومعجبين ؟ 

وأسئلة أخرى كثيرة ظلت ترد على الخاطر تلاحقنى لتجعلنى أكثر حماسا ويقينا بالكتابة عن الراحل  وردى  بعد  غيابه عن  الساحة  التى  أثراها  بفنه ومواقفه المشهودة وبإجتهاداته الشجاعة … أصابت أم اخطأت … لايهم . 

المهم عنده  كان إثبات المواقف والثبات عليها بشجاعة نادره دفع ثمنها مثنى وثلاث وليكن ما يكون،

 فقد كان وردى فى حياته لا يعرف اللون الرمادى مطلقا فى التعامل مع المواقف وردود الأفعال  أيا كانت ومهما عظمت شأنا وخطورة..

نعم كان بينى وبين الراحل وردى سجال فنى ونقدى وأشهد بأنه جعلنا أكثر قربا قبل أن يضعنا على طرفى نقيض بل كان وردى هو المبادر بتجسيرتلك الفجوة التى حفرتها معاول أقلام تخذت من مقالاتى منصات لا للدفاع عن وردى ولكن للتقليل من شأن موسيقى شاب حديث التخرج وكذلك التبخيس المتعمد من مكانة معهد الموسيقى والمسرح الذى تخرجت فيه عام 1974وكانوا يرددون (لما فشل في الغناء للجمهورصار يغني في الصحف) 

ولن أنسى مواقف كثيرة  لوردى  تجاهى حتى وهو( ماخد فى خاطرو) لكنه كان دائما ما يؤكد على ضرورة وأهمية النقد البناء الذى كان لى شرف إفتراعه فى منتصف سبعينات القرن الماضى بعد تخرجى وما أجتذب إليه أقلاما مقدره يتقدمها الراحلان جمعه جابر وعبدالله أميقو ثم انضم  إليهما الزميلان الأستاذان  يوسف الموصلى والماحى سليمان …

فى أول أسبوعمن  يناير عام 1976 إلتقينا( وردى وشخصى) فى مصلحة الثقافة وبعد التحية والسلام  بادرنى متسائلا بشئ  من عتاب  غضوب ( يا فلان  إنت ما عندك غير وردى ) طيبت خاطره بأننى لا أتعمد النقد لأجل النقد ولكنى أفعل ذلك بحسب القيمة  الفنية والجماليه  ثم سألته فى هجوم  معاكس  ( وأنت يا أستاذ هل نسيت هجومك وانت فى بداية النجومية على الفنان سيد خليفه فى صفحات مجلة الصباح الجديد التى كان يمتلكها الصحفى الشاعر حسين عثمان منصور رحمه الله ثم هل تريدنى يا أستاذ وردى أن أكتب عنك أم عن المطرب فلان؟) وفلان هذا كان مطربا يتسوق بالغناء الركيك الغث ومع ذلك وجد إقبالا وقبولا جماهيريا واستجابة من أقلام كثيرة وبعض من محررى الصفحات الفنية وكنت وقتذاك أتأهب للسفر مبعوثا إلى جمهورية ألمانيا الديموقراطية (المانيا الشرقية الشيوعية) فى دراسات عليا لنيل درجة الماجستير فى تخصص التأليف الموسيقى الذى نلت فيه البكالوريوس خريجا ثم مساعد تدريس فى معهد الموسيقى والمسرح والفنون الشعبيه عام 1974 .  

نصحنى وردى قائلا فى مكتب الأستاذ صالح عركى الذى شهد لقاءنا ( لكن برضو حقو تدرس النقد الموسيقى إنت بتكتب كويس….  وماتنسى ناس المانيا الشرقيه ديل ناسنا حنوصيهم عليك ) قلت له مناكفا ( يا أستاذ هذه بعثه رسميه حكوميه ما جاتنى منكم) ضحكنا وافترقنا … ومرت الأيام .

وفى يوم ألتقيت وردى فى إحدى الأمسيات بالمسرح القومى فى عام 1984 ودار بيننا حوار حول الغناء وتاريخ المسرح القومى ودوره فى الحراك الفنى  وتطرق الكلام عن النقد الموسيقى وفجأة خطر لى سؤال خبيث وجهته للراحل وردى لاتحاشى تعليقاته الساخرة  قلت له ( الناس يقولون إنك تهاجمنى سرا وعلنا لأننى كتبت عنك كثيرا وبعضهم يدعى أنك لا تتكلم معى ولكن بحكم الواقع  والآن هذا  ليس  صحيحا مارأيك ؟) كنت أتخيل أنه سيرد على السؤال بكلام كثير كعادته عندما يستفيض فى الحديث بالتركيز واختيار العبارات المباشرة والساخرة  لكنه بدلا من ذلك  طلب منى أن نذهب سويا لدار إتحاد الفنانين المجاورة للمسرح القومى وهناك جلسنا ثم بعد قليل جالسنا الراحل على ميرغنى والأستاذ عثمان مصطفى … تكلم  وردى مباشرة  مع  عثمان مصطفى قائلا ( يا عثمان أنا عايز أعمل (قعده) لأنس فى جلسه خاصه جدا وعشان بيتى بعيد فى الخرطوم أقترح نعملها عندك فى المورده وكل التكلفه على حسابى … ولا كلمه يا عثمان بس ناس بيتك ينظموها دا ذاتو كتير ) وكانت جلسة لاتنسى كنا  فيها كلنا  ندامى  نتبادل الغناء والونس…يا رعى الله تلك الأيام  النضيره.  

هذا هو وردى الذى عرفته منذ أن استمعت إليه وهو يغنى لأول مرة فى إذاعة أمدرمان  فى امسية من صيف عام 1957 وإلى آخر لقاء جمعنى به فى امسية السبت الموافق 19 نوفمبر المنصرم قبل وفاته بثلاثة  أشهر بالضبط فى يوم حزين من فبراير 2012 . 

 وأذكر هنا أننى كنت قد إتفقت مع الأستاذ الراحل وردى على عقد جلسات يروى لى فيها سيرة حياته لأعيد صياغتها ونرتبها معا ثم ننشرها  للقراء فى جزئين واتفقنا أن نتطرق أيضا لمواضيع أخرى مرتيطة بالماضى وذات  دلالات وتأثير على الحاضر ثم  كيف ينظر ( وردى لمستقبل الحياة فى السودان وحركة الغناء والثقافة والسياسة) وكنا قد أعلنا ذلك الإتفاق قبل أربعة أعوام فى حفل بمنتدى الخرطوم العائلى فى ليلة أقيمت حول الثنائية المشهودة بين وردى والراحل الشاعر إسماعيل حسن وقدم لها الأستاذ الصحفى الزبير سعيد وكنت بالطبع أمنى نفسى بإنجاز وتحقيق هذه المهمة الصعبة الممتعة والمتعبة  لنا صحيا ذلك لأن كلينا يعيش بكلية واحدة هو بواحدة مزروعة وأنا  بعد استئصال الكلية اليسرى وفوق ذلك تبين أننى أعيش بقلب  عليل ورهيف أتعبنى وأتعبته وبالمقابل تعرض وردى بعد زرع الكلية المُتَبرَّع له بها لحالات أستوجبت واستدعت مراجعة الأطباء فى الدوحه بدولة قطر الشقيقة وفوق ذلك إزدحام برنامجه بالحفلات والإحتفالات والمقابلات الإذاعيه والتلفزيونيه   وكذلك إرتباطاته الإجتماعية  فلم نتمكن من بدء الجلسات  وبرغم تطاول المدة دارت بيننا أحاديث تلفونيه متباعدة ولقاءات عابرة على مدى سنوات الإنتظار وأخيرا  جلسنا لأول مرة عشية السبت 19 نوفمبر 2011 فى حديقة منزله وتشاء إرادة الله أن تكون هى الأخيرة بيننا وقد أشرت إليها آنفا وٍسأعود لهذه المقابلة بالتفاصيل فى سياق هذه المقالات فى يوم من أيام  وردى رحمه الله…

وهكذا عندما طلب إلى الأخ الشاعر الجميل محمد  نجيب محمد على وهو االصديق والجار  مستكتبا  قبلت ولكنى لم أشا أن أكتب باكيا أو متباكيا ( فقد بكينا يوم وداعه كثيرا وما نزال) ونحن نعلم أن البكاء لا يعيد فقيدا ولا يفيد مفئودا  فرأيت أن أكتب ولكن من زوايا اللحظات التى جمعتنى به  معجبا حينا ومغنيا وزميل دراسة حينا وناقدا ومتذوقا لفنه حينا آخر لعل فى ذلك ما يلقى الضوء على بعض جوانب مهمة فى سيرة الأستاذ الراحل بما يضيف لمحات وإضاءات ربما لم يكن من المحتمل الكشف عنها  لأننا مقلون كثيرا فى الرصد والكتابه والتحقيق .

 ومع ذلك أعترف لكم أننى ما أزال تواقا لكتابة سيرة هذا الفنان الإنسان المتفرد بإبداعه الفريد وفى شخصيته مستأذنا  فى المقام الأول  أسرته وذويه بأن يسمحوا للفكرة أن تنطلق ويعينوننى على إستكمالها … وأما ما سيتبقى من مراجع ومراصد واقوال وحكايات فأمرها سهل وميسور فما أظن أن أحدا من محبى وردى وخلصائه سيبخل علينا بالعون والنصح والتشجيع …. 

ما سأكتبه هو لحظات سانحه أتاحتها لى أقدار الزمان ومشيئة الله واريحية وردى المعروفة عنه مع أهل الثقافة والإبداع الحقيقيين … وما من شك أن حياة الراحل وردى كانت زاخرة بالإنجازات والفعاليات والمبادرات والمواقف والمصادمات وما تجود به الذاكره هوبلا شك قطرة فى محيط كبير تخفى أعماقه كنوزا واسرارا وإبداعات تبدو أمواجها هادئة رخاء وتلوح فى الأفق جبالا من أمواج عاتيه قادمة لتكتشف الأجيال القادمة عظمة وعبقرية ذلك الذى لم يترك لنا فى بحر ألحانه الخماسية فرصة للإبحار معه فيها واما أنا فقد إكنفيت بالجلوس على الساحل هادئا أداعب موجات ذلك الخضم وهى تتكسر على الساحل علها تجود علىَّ بصدفة من صدفاته  تخفى فى جوفها قبسا من ذكريات مع إنسان عظيم خلده التاريخ قبل أن يغادر الدنيا إلى رحاب الله العزيز الغفور الرحمن الرحيم .

اللهم ارحم عبدك  محمد عثمان وردى الفقير إليك ونسألك اللهم أن تنزله منزل صدق فى الفردوس الأعلى مع والصديقين  والشهداء  والصالحين وحسن اولئك رفيقا وستبقى ذكرى محمد وردى باقبة لا تنسى ما ظلت أعماله وإبداعاته خالة في ضمير الناس في وطنه وفي كل بلد من بلاد الله. 


شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *