بقلم: هنيدة التني
• في أحد أحياء الخرطوم، استأجر شاب شقة صغيرة في عمارة حديثة، مضت الأشهر الأولى بهدوء، لكن مع الظروف الصعبة وتأخر المرتب، تراكم عليه الإيجار ثلاثة أشهر.
ذات مساء عاد إلى المنزل ليجد الأنوار مطفأة والمياه مقطوعة، فاتصل بالمالك ليستفسر، فأجابه بحدة:
«ادفع المتأخرات أولًا، وبعدها نرجّع الخدمات!».
شعر المستأجر بالظلم، وتوجه إلى الشرطة بشكوى، مؤكدًا أن ما حدث تعدٍّ على حقه كمستأجر.
وهنا يبرز السؤال الذي يهم كل من يملك عقارًا أو يسكن بالإيجار:
هل يجوز للمالك أن يقطع الخدمات من المستأجر المتأخر في السداد؟
لم تعد مثل هذه الحوادث مجرد حالات فردية بين مالك ومستأجر، بل أصبحت ظاهرة منتشرة في المجتمع بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة.
ففي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وارتفاع تكاليف المعيشة والسكن، تزايدت حالات التأخر في سداد الإيجار، مما أدى إلى احتكاكات متكررة بين الطرفين، غالبًا ما تبدأ بخلاف بسيط وتنتهي بشكوى قانونية أو تدخل الشرطة.
ما يجعل المسألة أكثر خطورة هو أن كثيرًا من الملاك باتوا يعتقدون أن لهم الحق المطلق في قطع الخدمات ـــ من كهرباء أو مياه أو حتى الإنترنت ـــ باعتبارها وسيلة «عادلة وسريعة» لإجبار المستأجر على الدفع أو الإخلاء.
في المقابل، يرى المستأجرون أن هذا السلوك تعدٍّ صريح على حقهم في الانتفاع بالعقار، ما دام العقد ما زال قائمًا ولم يصدر حكم قضائي بالإخلاء.
هذا التباين في الفهم خلق إشكالية قانونية ومجتمعية واسعة، وأصبح من الضروري توضيح الموقف القانوني بشكل صريح، حتى لا تتحول العلاقة الإيجارية ـــ التي يفترض أن تقوم على التعاون والثقة ـــ إلى ساحة نزاع وتجاوزات متبادلة.
كما أن أهمية هذا الموضوع لا تنحصر في كونه نزاعًا على خدمات، بل لأنه يعكس واقع العلاقة بين المالك والمستأجر في ظل تغيّر الظروف الاقتصادية والاجتماعية، ويطرح تساؤلًا جوهريًا حول حدود كل طرف:
*إلى أي مدى يمكن للمالك حماية حقه دون أن يعتدي على حق المستأجر؟
*وما الإجراء القانوني الصحيح لاسترداد الحقوق دون اللجوء إلى وسائل غير مشروعة؟

الإطار القانوني للعلاقة بين المالك والمستأجر في القانون السوداني
تُخضع العلاقة بين المالك والمستأجر في القانون السوداني لأحكام عقد الإيجار، حيث عرّف المشرع السوداني الإيجار في قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 تحت مسمى الإجارة، وجاء في نصه أن:
«الإجارة تمليك المؤجر للمستأجر منفعة مقصودة من الشيء المؤجر لمدة معينة لقاء مقابل معلوم».
يُعد عقد الإيجار في القانون السوداني عقدًا رضائيًا ينعقد بمجرد اتفاق الطرفين على العين المؤجرة والأجرة والمدة، دون حاجة لشكليات خاصة. وهو كذلك عقد ملزم للجانبين، يرتب التزامات متقابلة على كل من المؤجر والمستأجر.
وقد عرَّفه السنهوري بقوله: «الإيجار عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يُمكّن المستأجر من الانتفاع بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم»، وهو تعريف يبرز الطبيعة القانونية للعقد بوصفه:
*عقد معاوضة يقوم على تبادل المنفعة.
*عقدًا زمنيًا يرتبط بالمدة.
*ورضائيًا ملزمًا للطرفين.
ويُنظر إلى عقد الإيجار باعتباره عقد حيازة وانتفاع، لا يملك المؤجر بموجبه التدخل في استعمال المستأجر للعين إلا وفق الحدود التي رسمها القانون، مما يعني أن المؤجر لا يجوز له اتخاذ إجراءات فردية تمسّ حق المستأجر في الانتفاع، مثل قطع الخدمات الأساسية.
الحقوق والالتزامات في العلاقة الإيجارية
تنظم القوانين السودانية علاقة المؤجر بالمستأجر من خلال واجبات واضحة لكل طرف، حتى يستفيد المستأجر من العين المؤجرة، ويحصل المؤجر في المقابل على حقوقه دون نزاع، ويُعد فهم هذه الحقوق أساسًا لأي علاقة إيجارية مستقرة.
التزامات المؤجر:
وفقًا لقانون المعاملات المدنية السوداني، يلتزم المؤجر بعدة التزامات رئيسية، تهدف إلى تمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة واستيفاء المنفعة المقصودة، وتشمل هذه الالتزامات:
1. تسليم المأجور وتوابعه صالحة للانتفاع، وتمكين المستأجر من قبض المأجور دون مانع يعوق استخدامه طوال مدة الإيجار، مع جواز الامتناع عن التسليم حتى يستوفي المؤجر مقدم الأجرة.
2. صيانة المأجور، وإصلاح أي خلل يؤثر على الانتفاع، مع السماح للمستأجر بإجراء الإصلاحات الضرورية إذا تعذر الاتصال بالمؤجر، والرجوع على الأخير بالتكاليف ضمن حدود العرف.
3. عدم التعرض للمستأجر بما يعيق الانتفاع بالعين أو يغير حالتها بطريقة تضر بالمنفعة المعقود عليها، وإلا كان المؤجر ضامنًا للضرر.
4. ضمان العيوب الخفية التي تحول دون الانتفاع بالعين أو تنقص منه نقصًا فاحشًا، مع استثناء العيوب المعروفة للمستأجر وقت التعاقد، أو التي كان من الميسور اكتشافها.
التزامات المستأجر:
يُحمّل قانون المعاملات المدنية السوداني المستأجر مجموعة من الالتزامات، التي تهدف إلى ضمان الانتفاع السليم بالعين المؤجَّرة والمحافظة عليها، وذلك لتحقيق التوازن بين حقوق الطرفين، وضمان حسن استخدام المنفعة المتفق عليها في عقد الإيجار، وتشمل:
1. الحفاظ على المأجور وحمايته من التلف أو النقصان.
2. استعمال المأجور وفق العقد أو العرف دون تجاوز المنفعة المتفق عليها.
3. عدم إجراء تغييرات أو إنشاءات دون إذن المؤجر، وإعادة المأجور عند انتهاء الإيجار للحالة الأصلية.
4. إجراء الترميمات والنظافة المعتادة، وتسهيل أعمال الصيانة للمؤجر.
5. الحصول على إذن المؤجر عند إعارة أو تأجير المأجور للغير.
تحليل موقف القانون من قطع الخدمات الأساسية
أولاً: التزام المؤجِّر بعدم إزعاج المستأجر (المادة 310)
جاء في المادة 310 من قانون المعاملات المدنية السوداني:
«لا يجوز للمؤجِّر أن يتعرض للمستأجر بما يزعجه في استيفاء المنفعة طوال مدة الإيجار، ولا أن يُحدث في المأجور تغييراً يمنع الانتفاع به أو يخل بالمنفعة المعقود عليها، وإلا كان ضامناً».
هذه المادة – رغم عمومها – تُعد نصاً صريحاً يمنع المؤجِّر من اتخاذ أي إجراء يحول دون انتفاع المستأجر بالعين المؤجَّرة، سواء كان الإجراء مادياً (كإغلاق المداخل، أو تغيير الأقفال) أو فعلياً (كقطع الخدمات التي يعتمد عليها الانتفاع بالمأجور).
ثانياً: شمول الخدمات الأساسية للمنفعة المقصودة بالعقد
الانتفاع بالمأجور – خاصة في العقارات السكنية أو التجارية – يقوم على توفر الخدمات الأساسية. وقطع هذه الخدمات:
*يمنع الانتفاع بالمأجور كلياً أو جزئياً،
*ويُعتبر تعرضاً للمستأجر.
*ويمثل إزعاجاً مباشراً يجرّمه القانون.
ولذلك فإن قطع الماء أو الكهرباء يُعد إخلالاً واضحاً بالتزام المؤجِّر المنصوص عليه في المادة 310.
ثالثاً: لماذا لا يُعدّ تأخر المستأجر عن السداد مبرّراً لقطع الخدمات؟
لا يجوز للمؤجِّر – قانوناً – أن يلجأ إلى قطع الخدمات الأساسية عن المستأجر بحجة تأخره عن دفع الأجرة، لأن المشرّع السوداني قد سبق وأن وضع ضوابط واضحة وصريحة لحالة عدم السداد، بحيث لا يترك للمؤجِّر حرية اتخاذ إجراءات ذاتية تخالف القانون أو تضر بالمستأجر.
فقد نصّ قانون إيجار المباني لسنة 1991 على الحالات التي يجوز فيها للمؤجِّر أن يطلب الإخلاء، وجاء في مقدمة تلك الحالات:
«تحكم المحكمة بالإخلاء في أي دعوى يقيمها المؤجِّر لاسترداد حيازة أي مبنى في أي من الحالات الآتية، وأولها: عدم دفع المستأجر الأجرة».
وهذا النص يُظهر بوضوح أن المشرّع حدّد مساراً قانونياً محدّداً يلجأ إليه المؤجِّر عند إخلال المستأجر بالتزاماته، وهو اللجوء للمحكمة وطلب الإخلاء، لا اتخاذ إجراءات من تلقاء نفسه.
وبذلك يكون القانون قد عالج الموضوع ضمنياً لكنه بحسم كامل:
فما دام المؤجِّر يمتلك طريقاً قانونياً رسمياً لاسترداد حقه في مواجهة المستأجر المتأخر، فإن استخدام أي وسيلة أخرى – كقطع الكهرباء أو الماء – يُعد فعلاً غير مشروع ومخالفاً للقانون، ويشكل كذلك تعرضاً للمستأجر وإزعاجاً له بالمخالفة للمادة 310 من قانون المعاملات المدنية.
وبالتالي فإن تأخر المستأجر عن دفع الأجرة لا يُعد بأي حال مبرّراً لقطع الخدمات، لأن معالجة هذا الإخلال منصوص عليها بوضوح في التشريع، ولا تتضمن أي رخصة للمؤجِّر لحرمان المستأجر من الانتفاع أو ممارسة الضغط عليه.
قطع الخدمات عن المستأجر في ضوء نظرية التعرض لدى السنهوري
يشير السنهوري في كتابه الوسيط في شرح القانون المدني إلى أن المؤجر يضمن للمستأجر تمكينه من الانتفاع بالعين المؤجرة انتفاعًا هادئًا وكاملًا،
ويشمل ذلك عدم التعرض للعين بأي شكل يمنع المستأجر من الانتفاع بها، سواء بالتدخل الشخصي أو بإحداث تغييرات تخل بالانتفاع،
حيث ذكر في كتابه: «يضمن المؤجر للمستأجر عدم التعرض له في الانتفاع بالعين المؤجرة، وهذا الضمان فرع عن التزام المؤجر العام بتمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة انتفاعًا هادئًا كاملا».
واعتبر السنهوري أن منع المياه، أو الامتناع عن إصلاح المصعد، أو تعطيل الإنارة، تدخل جميعها ضمن صور التعرض. وأشار إلى أن للمستأجر في هذه الحالات أن يطلب التنفيذ العيني ووقف التعرض، بل وله عند الضرورة اللجوء إلى قاضي الأمور المستعجلة لتعيين حارس يتولى القيام بهذه الالتزامات على نفقة المؤجر.
وتشير هذه النصوص إلى أن من التزامات المؤجر عدم التعرض للمستأجر بما يعيق انتفاعه بالعين المؤجرة، ويُعد قطع الخدمات من صور هذا التعرض.
الآثار القانونية لقطع الخدمات
إذا أقدم المؤجِّر على قطع الخدمات، فإنه يُعد:
*مخلاً بالتزاماته التعاقدية،
*ضامناً للأضرار التي تلحق بالمستأجر،
*معرضاً للمساءلة المدنية وربما الجنائية إذا ترتب على القطع ضرر جسيم أو اعتداء على حق ثابت.
وينص قانون المعاملات المدنية السوداني لسنة 1984 في المادة 311 على أنه:
«إذا ترتب على تعرض المؤجر للمستأجر على النحو المبين في المادة 310 حرمان المستأجر من الانتفاع بالمأجور طبقاً للعقد، جاز له أن يطلب الفسخ أو إنقاص الأجرة مع ضمان ما أصابه من ضرر».
ويترتب على هذا النص عدة استنتاجات مهمة:
*حرمان المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة يعد تعرضاً من المؤجر، مما يضع هذا الفعل ضمن دائرة الأعمال غير المشروعة قانونياً.
*حق المستأجر في طلب الفسخ أو إنقاص الأجرة وضمان التعويض عن الضرر يُظهر أن القانون قد وفر له وسائل حماية قانونية فعالة ضد أي تدخل يعيق انتفاعه.
استناداً لذلك، فإن أي فعل من المؤجر يهدف إلى الضغط على المستأجر، كقطع الخدمات الأساسية، لا يُعتبر مشروعاً، بل يُعد خرقاً لالتزامه بعدم التعرض للمستأجر وفق المادة 310.
وبالتالي، يوضح القانون بجلاء أن قطع الخدمات عن المستأجر يُعد فعلاً غير قانوني، ويحق للمستأجر مواجهته قانونياً بطلب الفسخ أو إنقاص الأجرة وتعويض الضرر.
خاتمة
عند دراسة القانون، كثيراً ما نقرأ المواد المتعلقة بهذا الموضوع مروراً دون التركيز على أهميتها الحقيقية. لكن عند حدوث مخالفة للنصوص القانونية، يبدو في البداية أن الإجابة عن التساؤلات المتعلقة بحقوق الأطراف صعبة أو غير واضحة. ومع ذلك، عند العودة إلى النصوص نجد الإجابة واضحة وقطعية.
هذا هو الحال مع مسألة قطع الخدمات عن المستأجر. قد يظن الإنسان العادي، غير المطلع على القانون، أن للمؤجّر الحق في التصرف كيفما شاء إذا لم يستوفِ حقه المالي أو الأجرة، وأنه يحق له الضغط على المستأجر بقطع الخدمات أو غيرها من الإجراءات.
إلا أن القانون أجاب عن هذا التساؤل بوضوح وصراحة، حيث لا يمنح المؤجر أي مبرر قانوني للتصرف بشكل تعسفي، ويقيده بالنصوص الصريحة التي تحمي حق المستأجر في الانتفاع بالمأجور ووسائل إنفاذ القانون.
شارك المقال
