د. عبدالمنعم سليمان الحسين
كاتب صحفي
• دعونا نسبح في أمواج عاميتنا نستجلي جمالها، ونستدفئ بدفء حروفها.
المفردات السودانية تعج بالكلام الموغل في المحلية، التي يجد غيرنا صعوبة في استيعابها.
(كلام ساكت)
هنا السامع غير المستوعب للمكون المحلي للغة قد يقع في حيرة، فهذان بالنسبة له ضدان واجتمعا
(الكلام والسكوت) الكلام ينطلق فيه اللسان من عقاله، والسكوت لسان تطبق عليه الشفتان سداً منيعاً تمنعان انطلاقه، وهذا الموقف لا يعجز المكون المحلي عن إدراك كنهه، ويعلم أن ذلك يعني الكلام الذي لا طائل منه ولا جدوى ولا قيمة له.
وهناك مكون محلي في التعاطي مع الشعر، ولكنه مفهوم للكل، وله صورة جمالية مع التقاء الأضداد عندما يقول الشاعر
(الليل والقمرا ضدين واجتمعوا) هنا صورة للجمال تدهش الجميع في اجتماع الأضداد التي تبهر جمالاً، شعراًِ فاحم السواد ينسدل على الأكتاف ووجهاً مستديراً جميلاً يحاكي القمر، وعيوناً إن رشقتك بنظرة وهي أول نظرة (بقيت مجنونو).
من العبارات المحلية المحيرة أن يقول أحدهم لأحدهم
(أمس جيتك ولقيتك ما في)
شوف العكة دي، جاء ولقاه…… ما في.
كيف لقيه وهو لم يكن موجوداً؟
شفت الشربكة دي كيف؟
لكن نحنا الشفوت أسياد المكون المحلي لأننا أهل الدروب الوعرة في مفردات اللغة، نفهما طايرة والمخاطب يعرف أن فلاناً ذلك جاءه أمس (فعل ماضي) ولم يجده.
من إبداعاتنا في التعاطي المحلي، تصغير بعض الكلمات أحياناً للدلال، كأن تنادي ابنتك مدللاً إياها (بنيتي) أو لتخفيف الوقع عند ارتباط الكلمة بمصيبة أو بشرٍّ مثلاً كما يقال في شمال السودان عند المواساة في مصيبة أو التعبير عن وقوع شر فتقول النساء
(وا شيريري)؛ لتخفيف هذا الشر الذي وقع وتصغيره من شر إلى شرير صغير بكسر الشين.
أيضاً في مناطق أهلنا الشايقية إن زرت إحدى الحبوبات عند المغيرب، تحتفي بك، وتعانقك مرددة اسمك عدة مرات، وتربطه باسم أمك كأن تقول لك مثلاً (إزيك آآآ وليد سرورة تدليلاً لاسم دارالسرور)، ثم تقول لك بعد هذا الترحيب الحار (أقعد آآآ وليدي النسويلك ترمة تتقل بيها بطنك قبل العشاء)، وكلمة ترمة هنا تعني بها أكلاً أو لقمة، وعندما تعتذر لها تحلفك (يمين الله ماك مارق إن ما أخدتلك جغيمة شاي بي لبن)؛ والجغيمة تصغير لجغمة، وهي تعني جرعة ولكنها هنا تعني بها كباية شاي كاملة الدسم.
شوف بالله الحميمية دي.
أحياناً نجمع بمزاجنا جمعاً لا علاقة له بجمع المؤنث السالم أو جمع التكسير، فنقول في الاحتفال والحسان يتراقصن في الساحة على الأنغام، لينبري أبناء العمومة يهزون الضرعات أملاً في الشبال (أيام زمان) أبشرن يا البنوت بالخير وهنا جمع بنت (بنوت) وليس بنات، وبنوت هذه وقعها على الأذن المصرية إن سمعها أحد الأشقاء المصريين لحسبها نبوت؛ وهو العصا الغليظة التي يتبارز بها الفتوات. وسيستغرب هل يبشر هؤلاء الشباب بنات العمومة الراقصات بالنبوت وهو تلك العصا الغليظة، ولكنا أيضاً نقول بنوت ونفهمها طايرة وفيها صيغة فخر بهن.
التصغير في عمومه صيغة موغلة في الجمال والتدليل، وهي تزيد الشعر والكلام جمالاً أكثر من الكلمة الأصل، مثل كلمة (الوادي)
عندما يردد عبدالقادر سالم
اللوري حل بي دلاني في (الودي) بكسر الواو، وإن وضعت مكانها الوادي ستجد الودي أجمل وأوقع جرساً موسيقياً على الأذن.
وفي موقع آخر يصدح قائلاً
(حبيبي سيد الناس يبقى لي وناس).
ونَّاس بتشديد النون وفتحها هنا مشتقة من الأنس، وهنا هو يعني أن حبيبه والذي هو سيد الناس هو خير من يؤانسه (وناس).
ولكنك في مجتمع آخر غير مجتمعاتنا إن قلت فلان ده وناس لما فهمك أحد، لكن الكلمة تتقطر حميمية عندنا.
صديق عباس يقول في أغنية مطر الرشاش
(مطر الرشاش الرشا
في دار كردفان الهشا
أنا عقلي طار وطشا
ورى المراح النشا
السايرات وراه ناس عشة
بت التلب أبو كشة
أخت النمور الساكنة فوق الخشة
جات لابسة السوار أبو نقشة
بي أحلى العطور مترشة
زينة البنات يا عشة
رحماك بي عقيلي الطشا)
منتهى الجمال الذي بسببه (يطش) العقل، وهو طيش العقل بالفصحى من (يطيش العقل) أي يغيب العقل وقد يصل مرحلة الجنون.
يقول أبوالعتاهية
((إذا لجَّ أهلُ اللؤمِ طاشتْ عقولُهمْ
كذاك لَجَاجَاتُ اللئامِ إذا لجُّوا ))
وحالياً عندما يرى الناس شخصاً يهذي بما لا يفهم يقول الناس عنه (فلان ده طاشي شبكة) هنا خلطوا القديم بالحداثة، فقد كان العقل يطيش بسبب الجمال، ولكن هنا يربطونه بشبكة الهاتف التي تطيش وتختفي أحياناً.
وفي آخر الأبيات يلجأ للتصغير، فيصغر العقل إلى عقيلي كعادة الكثير من الشعراء فيقول
(رحماك بي عقيلي الطشا).
في المقال القادم إن شاء الله نبحر أكثر في بحور عاميتنا، ونستجلي أصداف لؤلؤة جمال معانيها.
شارك المقال
