• في كل عام، ومع هبوب نسائم نوفمبر، تتحول الشارقة، عاصمة الثقافة العربية، إلى قارة من الورق، وميناء ترسو فيه سُفن الفكر من كل حدب وصوب. إنها ليست مجرد مناسبة، بل هي طقس سنوي مهيب، يتجدد فيه العهد بين الإنسان وأعظم اختراعاته: الكتاب. وفي دورته الرابعة والأربعين، يرفع معرض الشارقة الدولي للكتاب شعاراً يلامس شغاف الروح: «بينك وبين الكتاب»، دعوة صريحة لاختزال المسافات بين القارئ وعالمه الموازي.
هذا المعرض ليس سوقاً للكتب فحسب، بل هو كرنفال للحواس، حيث تمتزج رائحة الورق القديم بعبق الحبر الجديد، وتتداخل همسات الزوار مع ضجيج الأفكار. إنه فضاء يتسع لـ 2350 ناشراً قدموا من 118 دولة، ليحولوا مركز إكسبو الشارقة إلى خريطة حية للمعرفة. هنا، تتجاور الحضارات دون حواجز، وتلتقي المدارس الفكرية على أرضية واحدة من الاحترام والشغف. فكل كتاب هو نافذة، وكل جناح هو بوابة إلى ثقافة لم تُكتشف بعد.
وفي هذه الدورة، كان لليونان، مهد الفلسفة والإلهام، شرف ضيف الشرف. لقد جاءت أثينا لتحكي قصتها، قصة «الإلياذة» و»الأوديسة»، قصة سقراط وأفلاطون، لتؤكد أن جذور المعرفة الإنسانية واحدة، وأن الحوار الثقافي هو جسرنا الأبدي نحو التفاهم.
إن حضور اليونان، بكل ما يحمله من ثقل تاريخي وجمال أسطوري، يضيف إلى المعرض بعداً زمنياً عميقاً، يربط الحاضر بأمجاد الماضي، ويذكرنا بأن الكتاب هو الوعاء الذي حفظ لنا هذا الإرث العظيم من الضياع.
إن الشارقة، بقيادة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، لا تكتفي بكونها مضيفة، بل هي راعية وحارسة لهذا الحلم. هي تدرك أن بناء الأوطان يبدأ من بناء العقول، وأن الاستثمار في الحرف هو الاستثمار الأكثر ديمومة. المعرض هو تجسيد لرؤية ثقافية متكاملة، لا ترى في الكتاب مجرد سلعة، بل تراه أداة للتحرر، ومفتاحاً للوعي، ورفيقاً لا يخون.
في الختام، يغادر الزائر المعرض محملاً ليس فقط بالكتب، بل بشحنة من الأمل والتفاؤل. يغادر وهو يدرك أن العلاقة بينه وبين الكتاب قد تعمقت، وأن الشعار «بينك وبين الكتاب» قد تحول إلى حقيقة راسخة. فالكتاب في الشارقة ليس مجرد مادة للقراءة، بل هو نبض الحياة، وروح المدينة، وضوء لا ينطفئ في سماء الثقافة العالمية. إنه وعد بأن تظل الشارقة، ما دامت تقرأ، منارة للعالم.