الزَّمَنُ والرِّحْلَةُ .. تَأمُّلٌ بَانُورَامِيٌّ فِي شِعْرِيَّةِ هَاشِمْ صِدِّيق 

54
Hashim Sideeg
Picture of عادل سعد يوسف - الخرطوم

عادل سعد يوسف - الخرطوم

الجُزْءُ الأوَّلُ (1/1)

مَدْخَلٌ أوَّلٌ:

يَكْشفُ مَسَارُ الشِّعْرِ السُّودَانِيِّ ( العَامِي أوْ المَكْتُوبُ بِاللغَةِ الدَّارِجَةِ). عَنْ مُنْعَطَفَاتِ الهُوِيَّةِ الكِتَابِيَّةِ، فِي رِهَانِهَا عَلَى التَّعَدُّدِ والاخْتِلافِ والمُغَايرَةِ، وَمَا يجِبُ التَّنْوِيهُ إليهِ أنَّهُ لمْ تَكُنْ هُنَاكَ قطَائِعُ حَادَةِ وَحَاسِمَةٍ بَيْنَ حَلَقَاتِهَا التَّارِيخِيَّةِ، بَلْ تَمْتَلِكُ قَدْرًا مِنَ الاتِّصَالِ، لَكِنَّهَا ضِمْنَ سَيْرُورَةٍ مُعَقَّدَةٍ وَكَثِيفَةٍ نَتَجَتْ مِنْ اتِّسَاعِ المَتْنِ الشِّعْرِيِّ السُّودَانِيِّ نَفْسِهِ.

 لا شَكَّ أنَّ نُقْلَةً نَوْعِيَّةً حَدَثَتْ فِي الشِّعْرِ السُّودَانِيِّ المُعَاصِرِ (المَكْتُوبُ بِاللغُةِ الدَّارِجَةِ)، وَانْتِهَاءً بِشْعْرِيَّاتِ الحَسَاسِيَّةِ الجَدِيدَةِ الرَّاهِنَةِ وَالمُنْفَتِحَةِ عَلَى أفُقِ الكِتَابَةِ. وَإنْ اتَّسَمَتْ بِضِيقِ المَصَادِرِ المَعْرِفِيَّةِ لَدَى بَعْضِ الشُّعَرَاءِ فِي لَحَظَاتٍ مُتَأخِرَةٍ.

مَدْخَلٌ ثَانٍ:

أ- فِي اخْتِيَارِ العُنْوَانِ الرَّئِيسِ:

كَمَا هُوُ مسْكُوكٌ فِي العُنْوَانْ يَتَبيَّنُ أنَّنَا أمَامَ مَفْهُومَيْنَ، مَفْهُومُ الزَّمَن، وَمَفْهُومُ الرِّحْلَةِ. 

1. مَفْهُومُ الزَّمَنِ: 

تَنْهَضُ هَذِه البَانُورَامِيَّةِ عَلَى أنَّ الزَّمَنَ يُمْكِنُ إدْرَاكُه وَلا يُمْكِنُ ضَبْطُه، وَهَذا يَغْدُو وَاضِحًا فِي عَمَلِيَّةِ التَّوَاصُلِ المَعْرِفِيِّ بَيْنَ الشِّعْرِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ والشِّعْرِيَّةِ الحَدَاثِيَّةِ، لِذَلكَ يَتَّخِذُ الزَّمَنُ بُعْدًا حَرَكِيًّا حِينَمَا يَبْحَثُ الشَّاعِرُ فِيهِ عَنِ المُخْتَلِفِ وَالنَّادِر الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إليْهِ، فَيَغْدُو الزَّمَنُ فَضَاءً مَفْتُوحًا مُرَافَقًا لَهُ وَمُتَجَدِّدًا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ. 

فَالزَّمَنُ عِنْدَهُ حَالَةُ مُلْغِزَةٌ وَمُتَكَرِّرَةٌ فِي مُعْظَمِ نُصُوصِهِ، وَكَذَلِكَ الرِّحْلَةُ سَوَاء أكَانَتْ فِكْرِيَّةً أوْ وُجْدَانِيَّةً.

2. مَفْهُومُ الرِّحْلَةُ:

جَاءَ فِي القَامُوسِ المُحِيطِ لِلفَيْرُوزَآبَادِيِّ : «ارْتَحَلَ البَعِيرُ: سَارَ وَمَضَى، وَالقَوْمُ عَنِ المَكَانِ: انْتَقَلُوا، كتَرَحَّلُوا. وَالاسْمُ: الرِّحْلَةُ والرُّحْلة بِالضّمِ وَالكَسْرِ، أوْ بِالكَسْرِ: الارْتِحَالِ، وَبِالضَّمِ: الوَجْهُ الَّذِي تَقْصِدُ، وَالسَّفْرَةُ الوَاحِدةُ».

كمَا هُو مُتَعَارَفٌ علِيْهِ أنَّ أدَبَ الرِّحْلَةِ يَنْهَضُ عَلى السَّرْدِ القَصَصِيِّ المُتَضَمِّنْ مُشَاهَدَاتِ وانْطِبَاعَاتِ الرَّحَالةِ فِي البِلادِ الَّتِي يَزُورُهَا، وهَيَ تَقُومُ عَلى الوَصْفِ الطَّبِيعِيِّ أوْالجُغْرَافِيِّ، مَلامِحِ البَشَرِ وَرُسُومِهِم، عَادَاتِهِم وَتَقَالِيدِهِمْ، أنْمَاطِ عَيْشِهِمْ، وَتَفْكِيرهِم…الخ،

مَا نَنْظُرُ فِيه هُنَا هُو الخَصَائِصُ البِنَائِيَّةُ للخِطَابِ الرِّحْلِي وَهِيَ تِلكَ الثُّنَائِيَّاتِ الَّتِي يَتَحَرَّكُ فِيهَا النَّسِيجُ النَّصِّيُّ عِنْدَ هَاشمْ صِدِّيقْ (الخَارِجُ/ الدَّاخِلُ – الوَصْفُ/ السَّرْدُ- الحَاضِرُ/ المَاضِي …الخ). مَع النَّظَر فِي تَمَايزِ الأحْيَازِ المُتَاحَةِ لِكُلِّ ثُنَائِيَّةٍ. 

بِالإضَافَةِ لِمُكَوِّنَاتِ الخِطَابِ الرِّحْلِيِّ الَّذِي يَفْتَرِضُ وُجُودَ أطْرَافٍ ثَلاثَةٍ: ذَاتٌ حَاكِيَةٌ، وَخِطَابٌ مَحْكِيٌّ، وَمَوْضُوعٌ مَحْكِيٌّ عَنْهُ.

ب- العُنْوَانُ المُرَافِقُ تأمُّلٌ بَانُورَامِيٌّ، البَانُورَامَا: هِي: المشهدُ العامُّ الَّذِي يبدو من عُلُوّ، مَنْظَرٌ شَامِلٌ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ. وَالتَّصْوِيرُ البَانُورَامِيُّ نَوْعٌ مِنَ التَّصْوِيرِ العَرِيضِ وَالَّذِي يَأخُذُ زَاوِيَةً عَرِيضَةً نَوْعًا مَا.

(1/2)

الرِّحْلَةُ وَانْخِطَافِ الكَيْنُونَةِ

بِاصْطِحَابِ العَنَاصِرِ البِنَائِيَّةِ للخِطَابِ الرِّحَلِي يَتَوَضَّحُ لَنَا الآتي:  

فَالاحْتِفَالُ  بِالكِرِيسْمَاس مَحْكِيٌّ عَنْهُ وَهُو الحَيِّزُ الزَّمَكَانِيَّ لِجَانْ (المَوْضُوعُ)، وَالشَّاعِرُ ذَاتٌ حَاكِيَةُ، وَأمُّهُ/ نَحْنُ، مَقْصُودُونَ بِتَلَقِّي الخِطَابِ (مَحْكِيٌّ لَنَا)، (كَانْ كِريسْمَاسْ)، مَعَ مُلاحَظَةِ أنَّ الفِعْلَ(كَانَ) هُنَا لَيْسَ فِي المَاضِي، هِو فَعْلٌ دَالٌّ عَلَى اسْتِمَرَارِيَّةِ الحَدَثِ المُنْقَطِعِ عَنْ حَرَكِيَّتةِ الزَّمَنِيَّةِ، يَسْتَمِدُّ حُضُورَهُ مِنْ المَلْفُوظِ الثَّقَافِيِّ/ الجَمْعِيِّ، لِيُرَشِّحَ ثِيمَةَ التَّعَجُبِّ وَالاسْتِعْظَامِ، وَانْتِفَاءِ الشَّبِيهِ. نَقُولُ فِي عَامِيتِنَا (يَاخِ كَانَتْ حَفْلَة)، أيْ مِنْقَطِعَةٌ عَنْ كُلِّ مِثَالٍ سَابِقٍ عَلَيْهَا.

تَكْشِفُ لَنَا القَصِيدَةُ عَنْ جُمْلَةِ اقْتِضَاءاتٍ حِوَارِيَّةٍ ،عَنْ الحَيْرَةِ وَالانْدِهَاشِ، عَنْ اصْطِدَامِ  الشُّوفُ بِالإزْهَارِ الأنْثَوِيِّ، وَعَنْ عَلاقَاتِ التَّطَابُقِ وَالتَّمَاثُلِ بَيْنَ نَسَقَيْنِ بِنْيَوِيِّيْنِ (نَسَقٌّ حَضَاريٌّ/ وَنَسَقٌ دِينِيٌّ)، لِذَلكَ لا نَسْتَعْجِبُ عَنْدَمَا يَبْدَأُ الشَّاعِرُ نَصَّهُ بِقَصْدِيَّةِ الخِطَابِ المُوَجَّهِ لأمِّهِ ( كَانْ كِريسْمَاسْ فِي عَوَالِمْ يُمَّه لِعِيونِكْ جَدِيدَةْ). 

هَذِهِ الجِدَّةِ نَاتِجَةٌ عَنْ  مُعَايَنَةِ   الدَّهْشَةِ (جَانْ) عِنْدَمَا يَمَّحِي الوُجُودُ ، وَتَبْقَى جَانْ والمُوسِيقَى فِي حَالَةِ اتِّحَادٍ مُذْهِلٍ، قَالَ إفْلاطُونْ: « المُوسِيقَى تُعْطِي رُوحًا للْكَوْنِ ، أجْنِحَةً للْعَقْلٍ طَيَرَانًا للمُخِيَّلةِ وَحَيَاةً لِكُلِّ شَيْءٍ».

المَشْهَدَ النَّصِّيَّ يَنْهَضُ عَلَى المُنَاوَبَةِ بِينْ السَّرْدِ وَالوَصْفِ، فَالسَّرْدُ يَحْضُرُ منْذُ افْتِتَاحِ النَّصِّ « بِوَصْفِهِ شَكْلًا للتَّوَاصُلِ الرَّمْزِيِّ فِي سِيَاقٍ اجْتِمَاعِيٍّ مُعَيَّنٍ»(). 

(وجَانْ بِتَرْقُصْ/ ولَمَّا تَرْقُصْ جَانْ بِتَغْرَقْ/ مَرْةْ زَيْ لَهَبَنْ مَجَنّحْ/ ومَرَّةْ زَيْ أهَلَ الطَّرِيقَةْ). 

فَالتَّنَاوُبُ الحَرَكِي يَتَأرْجَحُ بَينَ الخَارِجِ المَوْضُوعِي (مَسْرَحِ الحَدَثِ) وَالدَّاخِلِ الوُجْدَانِيِّ للشَّاعِرِ.

الخَارِجِيّ: « فِي عَوَالِمْ يُمَّه لِعِيونِكْ جَدِيدَةْ… َالبَّنَاتْ يَا يُمَّه عِينِيهِنْ تَوَدِّرْ/ كُلُ لُونَنْ/ كُلُ رِمْشَنْ بِي قَصِيدَةْ».

الدَّاخِلِيّ:  «النَّبِيذْ فِي عُرُوقِي بَقَّ/ ولَهْلَبَتْ رُوحِي المُوسِيقَى/  الجَمَالْ يَا الله قَدَرِي/ ورُوحِي سَاكْنَاهَا المُوسِيقَى/ وفِي العِيُونْ الحِلْوَةْ/ بَقْرَا المَابَعَرْفُو/ وبَلْمَحَ الرّبْ وَالحَقِيقَةْ/ والطُّبُول لامِنْ تَدُقْ جُوَّايَ/ بِتِتْمَدَّ الجِسُورْ مِنْ (نُمُلي) )لِلحِلَّةْ الجَدِيدَةْ)/ والرِّزِيمْ لامِنْ يِهوِّمْ بِالبنيَّةْ الغَايْبَةْ زَيْ أهَلَ الطَّرِيقَةْ/ بَبْقى زُولاً شَكْلُو تَانِي/ وحَرْفُو تَانِي/ ورَسْمُو تَانِي/ ورُوحُو رِيشْتُو/ الجَمَالْ فِي الدُّنْيَا عِيشْتُو».

أعْتَقِدُ أنَّ هَاشِمْ صِدِّيقْ لمْ يَخْتَرْ عُنْوَانَ دَيْوَانِهِ اعْتِبَاطًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُدْرِكًا للأبْعَادِ الجَمَالِيَّةِ وَالفَلْسَفِيَّةِ وَالمَعْرِفِيَّةِ لِهَذَا الاخْتِيَار. هُنَا يَكُونُ الزَّمَنُ الشِّعْرِيُّ زَمَنًا لِكُلِّ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ بَوَصْفِه مَادَةَ الشِّعْرِ وَجَوْهَرَهُ النَّقِيَّ. وَتَغْدُو القَصِيدَةُ الزَّمَكَانَ الخَاصَّ بِالشَّاعِرِ، وَالرِّحْلَةُ مُخْتَبَرًا حِكَائِيًّا بِامْتِيَازٍ. 

مَا أقْصُدُهُ أنَّ الرِّحْلَةَ عِنْدَ هَاشِم صِدِّيق لَهَا شِقَّانِ: رِحْلَةُ الذَّاتْ فِي تَلَمُّسِهَا الوُجُودِي وَتَكَشُّفِهَا بِوَصْفِهَا كَيْنُونَةً  أيْ خَلْفِيَّةً تُنِيرُ الوُجُودَ ، والذَّاتُ فِي تَرْحَالِهَا المَكَانِيِّ.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *