الثقافة والإعلام.. جناحان للنهوض لا خصمان في الميدان 

32
يوسف عبدالرضي2

يوسف عبدالرضي

شاعر وكاتب صحفي

• يبدو أن العلاقة بين الثقافة والإعلام في السودان تمر منذ عقود بحالة من الالتباس والتنافر، كأنهما خطّان متوازيان لا يلتقيان، أو خصمان يتنازعان مساحة الضوء والاهتمام. غير أن الحقيقة الجوهرية أن كليهما منبع واحد للوعي، وجناحان لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض دونهما.

فالحديث عن الثقافة من دون إعلام فاعل، يشبه الحديث عن فكر محبوس في غرفة مغلقة.

كما أن الإعلام الذي ينفصل عن الثقافة يتحول إلى صخب بلا معنى، وضجيج بلا مضمون.

في مراحل مختلفة من تاريخ السودان، لعب الإعلام دورًا معرفيًا وتنويريًا بارزًا. كانت إذاعة أم درمان مثلًا، منارةً تبث الوعي، وتوحد الشعور الجمعي عبر برامجها التي جمعت بين الفن والمعرفة والوطنية.

 كانت الأصوات الإذاعية تمثل جسورًا بين المدن والقرى، تنقل القصيدة واللحن والفكرة إلى كل بيت.

ولم تكن الصحف أقل شأنًا؛ فهي التي وفّرت للمستنيرين نافذةً للحوار وإشباع الذهن بالمعرفة، وكانت صفحاتها الثقافية مساحات حرة يتنفس فيها الأدباء والشعراء والنقاد.

لكنّ الصورة تغيّرت كثيرًا في العقود الثلاثة الأخيرة، حين تراجع الإعلام عن دوره التنويري ووقع تحت هيمنة التوجيه الأيديولوجي والسياسي.

فقد تحوّل الإعلام في تلك المرحلة إلى أداةٍ للدعاية، وصار كثير من وسائله يتعامل مع الثقافة بوصفها هامشًا لا مركزًا، ومع المبدع باعتباره مصدر إزعاج لا مصدر وعي.

حين يصبح الوزير شاعرًا والمدير ناقدًا والجنرال روائيًا بالقرار الإداري، يغلق الباب أمام الشاعر الحقيقي، ويضيق الأفق أمام الكلمة الحرة. عندها تبدأ الثقافة في التراجع، ويتحوّل الإعلام إلى خصمٍ لها بدل أن يكون حليفًا.

إن الخلل في العلاقة بين الإعلام والثقافة ليس في المفهوم، بل في الممارسة.

فالإعلام في جوهره وسيلة لنشر المعرفة، وتبسيط المفاهيم، وتوسيع دوائر الوعي، أما الثقافة فهي روح ذلك الوعي، ومصدر إلهامه.

إذا صلح الإعلام، انتشرت الثقافة وازدهرت، وإذا فسدت بنيته، انكمشت الثقافة وتراجعت.

فلا يمكن لثقافةٍ حية أن تزدهر في غياب إعلام مهني حر، كما لا يمكن لإعلامٍ راقٍ أن ينجح بلا ثقافة رصينة تغذيه بالفكر والعمق والرؤية.

في تجارب الأمم التي سبقتنا في ركب التنمية، نجد أن الإعلام والثقافة يسيران معًا كخطي نمو متوازيين.

في أوروبا واليابان مثلًا، لم يكن الإعلام مجرد ناقلٍ للأخبار، بل كان صانعًا للرأي العام، وشريكًا في صياغة الذائقة الجمعية، يعرض الفنون، ويقدّم المفكرين، ويروّج للكتب والمعارض والمهرجانات.

أما في بلداننا العربية عمومًا، فقد ظلّ الإعلام حبيس السياسة، يتبع السلطة بدل أن يخدم الوعي.

وحين فقد استقلاله المهني، تراجع حضوره الثقافي، وصار أكثر ميلاً للسطحية والمبالغة، فابتعد عن جمهوره، وخسر دوره التاريخي كجسرٍ بين الناس والمعرفة.

إن السودان اليوم أحوج ما يكون إلى إعلامٍ وطنيٍّ حرٍّ ومستنير، يعيد الاعتبار للثقافة باعتبارها قاعدة الوعي الجمعي، ويمنح المبدعين مساحةً مستحقة للتعبير عن قضايا الوطن والإنسان.

فالثقافة ليست ترفًا، بل هي ما يشكّل هوية الأمة وضميرها الجمعي، والإعلام الحقيقي هو من يفتح لها النوافذ لتطلّ على الناس.

ولا يمكن لأي مشروع وطني أن ينجح من دون أن يتصالح الإعلام والثقافة، فهما في النهاية وسيلتان لغاية واحدة: تنوير الإنسان وبناء الوطن.

على الإعلاميين أن يدركوا أن رسالتهم لا تكتمل بالنقل فقط، بل بالفهم والتحليل والتثقيف.

وعلى المثقفين أن ينفتحوا على الإعلام، ويقدّموا إبداعهم بلغة يفهمها الناس، لأن الفكرة العظيمة لا تكتمل ما لم تجد وسيلتها إلى العقول.

إن الخندق الفاصل بين المثقف والإعلامي خندقٌ مصطنع، بناه سوء الفهم والأنظمة التي أرادت السيطرة على الكلمة.

أما اليوم، فقد آن الأوان أن تهدم تلك الجدران، وأن نبدأ مرحلة جديدة عنوانها الشراكة في خدمة الوعي العام.

ختامًا، يمكن القول إن العلاقة بين الثقافة والإعلام يجب أن تكون تكاملية لا تنافسية، علاقة تفاعل لا صراع. فالثقافة تمدّ الإعلام بالمعنى، والإعلام يمنح الثقافة الانتشار.

إنهما قدمان لجسدٍ واحد، إذا تعثّرت إحداهما توقف المسير، وإذا تآزرتا مضى الوطن بخطى ثابتة نحو النور.

ولعل أول خطوة في طريق النهضة، أن نعيد النظر في موقع الثقافة داخل منظومة الإعلام، فبدونها لا يمكن أن نتحدث عن وعي، ولا عن وطنٍ يعرف نفسه.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *