
ظاهرة الديجافو (Déjà Vu) حين يختلط الحاضر بالماضي
• هل حدث يومًا أن مررت بموقفٍ جديد تمامًا، لكنك شعرت بأنك عشته من قبل؟
أن تدخل مكانًا تراها عيناك لأول مرة، فتشعر بأنك تعرف زواياه وممراته؟ أو تسمع حديثًا فتصاب بالدهشة لأنك متأكد أنك سمعت الكلمات نفسها مسبقًا؟
هذا الإحساس الغريب والمحيّر يُعرف باسم ديجا فو (Déjà vu)، وهي كلمة فرنسية تعني «رُؤيَ من قبل».
ورغم بساطة التجربة، فإنها من أكثر الظواهر التي حيرت العلماء والفلاسفة، لأنها تمس صميم إدراك الإنسان للزمن والذاكرة والوعي.

أصل الكلمة ومعناها
كلمة Déjà vu تتكون من:
Déjà وتعني «سابقًا»،
Vu وتعني «رُؤيَ».
أي أن معناها الحرفي هو «شوهد من قبل».
ويصف المصطلح إحساس الإنسان حين يمر بموقف يعتقد أنه عاشه أو رآه مسبقًا رغم أنه جديد تمامًا عليه.
كيف تحدث ظاهرة الديجافو علميًا؟
لم يتوصل العلماء إلى تفسيرٍ قاطع لهذه الظاهرة، ولكنهم طرحوا عدة نظريات تعتمد على الذاكرة، والأعصاب، والإدراك.
فيما يلي أبرزها:
1. نظرية الذاكرة المزدوجة
يفترض العلماء أن الدماغ يخزّن الموقف في الذاكرة القصيرة والطويلة في نفس اللحظة تقريبًا.
لكن عندما يحدث خلل بسيط في التوقيت، يُسجل الحدث مرتين: مرة كأنه جديد، ومرة كأنه ذكرى.
وبذلك يشعر الإنسان أن الموقف مألوف وكأنه حدث من قبل.
2. نظرية الفص الصدغي (Temporal Lobe)
يرتبط الفص الصدغي في الدماغ بوظائف الذاكرة والتعرف على الوجوه والأماكن.
وقد لاحظ الأطباء أن الأشخاص المصابين بـ صرع الفص الصدغي كثيرًا ما يعانون من نوبات ديجافو قبل النوبة العصبية.
وهذا يشير إلى أن تنشيطًا كهربائيًا عابرًا في هذا الجزء من الدماغ قد يخلق الإحساس الكاذب بالألفة.
3. خلل في الاتصال بين نصفي الدماغ
الدماغ البشري يعمل بتناغم بين نصفين (أيمن وأيسر).
لكن إذا تأخر انتقال المعلومة جزءًا من الثانية من أحد الجانبين إلى الآخر، فقد يفسر الدماغ المعلومة الثانية على أنها تكرار لما شاهده مسبقًا، فيحدث الديجافو.
4. التفسير النفسي والعاطفي
التوتر، قلة النوم، أو الضغط النفسي الشديد قد يجعل الذاكرة تعمل بشكل غير دقيق.
في هذه الحالة، قد يُخزّن الدماغ الموقف الجديد في ذاكرة مألوفة، فيشعر الشخص أنه شاهده سابقًا.
وهذا يفسر لماذا تزداد الظاهرة أثناء فترات الإرهاق أو القلق أو العزلة.

أنواع الديجافو
يُقسم العلماء الظاهرة إلى ثلاثة أنواع رئيسية:
1. Déjà vécu (عِشت هذا من قبل)
شعور قوي بأن الحدث الحالي حدث سابقًا بكل تفاصيله.
2. Déjà senti (شعرت بهذا من قبل)
عندما يشعر الفرد أن إحساسًا أو فكرة معينة تكررت من قبل دون وجود دليل مادي.
3. Déjà visité (زرت هذا من قبل)
يحدث عند زيارة مكان جديد والشعور أنك تعرفه جيدًا وكأنك جُلت فيه سابقًا.
امثلة افتراضية شبه واقعية من السودان والعالم العربي
في السودان، كثير من الناس يربطون ظاهرة الديجافو بـ الحدس أو الإلهام، أو حتى «العيان في المنام».
يقول بعض كبار السن: «ده الحلم الجابك هنا يا ولدي»، أي أن الشخص ربما رأى المشهد في منامه من قبل.
• قصة من الخرطوم:
أحد طلاب جامعة الخرطوم يروي أنه أثناء جلوسه في قاعة الامتحان شعر فجأة بأنه جلس في المكان نفسه وأجاب عن الأسئلة نفسها من قبل.
الموقف استمر لثوانٍ فقط، لكنه تركه في حيرة ودهشة طوال اليوم.
• من أم درمان:
امرأة خمسينية تروي أنها حين دخلت منزل قريبتها الجديدة لأول مرة، شعرت أنها تعرف الممرات والمطبخ مسبقًا، رغم أنها لم تزره قط.
اعتقدت في البداية أن الأمر «كرامة» أو «رؤية مسبقة»، لكنها علمت لاحقًا من ابنتها أن هذه الظاهرة تُعرف علميًا بـ الديجا فو.
وفي العالم العربي عمومًا، كثير من الناس يفسرونها كـ إشارة روحية أو تنبؤ غامض بالمستقبل، خاصة في الثقافات التي تربط بين الأحلام والرؤى الواقعية.
لكن الطب النفسي الحديث يرى أن هذه الظاهرة لا علاقة لها بالماورائيات، بل هي مجرد خلل مؤقت في معالجة الذاكرة والإدراك.

العلاقة بين الديجافو والأحلام
يعتقد بعض العلماء أن الديجافو قد يرتبط بـ أحلام منسية.
فعندما نحلم بمشاهد أو مواقف ثم ننساها، يمكن أن تتشابه مع موقف واقعي نعيشه لاحقًا، فيستعيد الدماغ الإحساس المألوف دون أن يتذكر الحلم ذاته.
لذلك يشعر البعض أن الديجافو هو «حلم تحقق»، بينما هو في الواقع تشابه غير واعٍ بين الحلم والحدث الحقيقي.
الجانب الفلسفي للظاهرة
من الناحية الفلسفية، يثير الديجافو أسئلة عميقة عن طبيعة الزمن:
هل هو خط مستقيم أم دائرة تتكرر؟
هل يعيش الإنسان الزمن مرات متعددة في طبقات مختلفة من الوعي؟
يرى بعض الفلاسفة أن الديجافو لحظة يلتقي فيها الزمن النفسي بالزمن الفيزيائي، حيث يتقاطع الماضي بالحاضر داخل الدماغ.
ويعتقد آخرون أن هذه التجربة دليل على أن الوعي البشري أعقد من أن يُختزل في لحظة زمنية واحدة.

هل الديجافو حالة مرضية؟
في أغلب الأحيان، الديجافو ليس مرضًا، بل تجربة نفسية عادية ومؤقتة.
لكن إذا كان يتكرر بشكل مفرط أو يصاحبه دوار أو فقدان وعي أو نوبات كهربائية في الدماغ، فقد يشير إلى مشكلة عصبية مثل صرع الفص الصدغي.
عندها يُستحسن استشارة طبيب أعصاب لإجراء فحوصات مثل EEG أو MRI.
من الأكثر عرضة للديجافو؟
الدراسات تُظهر أن الظاهرة أكثر شيوعًا بين:
الشباب بين 15 و30 عامًا.
الأشخاص الأذكياء والمبدعين الذين يملكون خيالًا واسعًا.
من يعانون من قلة النوم أو التوتر أو السفر المتكرر.
بعض الحالات العصبية مثل الصرع أو القلق المزمن.
كما لاحظت الأبحاث أن الأشخاص الذين يقرؤون كثيرًا أو يعيشون في خيال خصب، قد يختلط عليهم الواقع بالتخيل مؤقتًا، مما يزيد احتمال حدوث الديجافو.
كيف يمكن التعامل مع الديجافو أو تقليل حدوثه؟
بما أنه لا يُعد مرضًا، لا يحتاج الديجافو إلى علاج.
لكن في حال كان الإحساس مزعجًا أو متكررًا، يمكن اتباع بعض الإرشادات:
الحصول على قسط كافٍ من النوم.
تقليل التوتر والانشغال الذهني الزائد.
ممارسة الرياضة وتمارين التأمل لتحسين التركيز.
تجنب الكافيين الزائد والمنبهات.
مراجعة الطبيب عند وجود أعراض عصبية مرافقة.

الديجافو في الثقافة والفن
أثرت هذه الظاهرة كثيرًا في الأدب والسينما.
ففي فيلم The Matrix الشهير، يظهر الديجافو عندما يرى البطل القط نفسه مرتين، ليكتشف أن النظام أعاد تحميل الواقع.
وفي الروايات العربية، استخدم بعض الكتّاب الظاهرة كرمز لتكرار القدر، أو لحظة يلتقي فيها الماضي بالمستقبل.
رؤية سودانية حول الظاهرة
في المجتمع السوداني، لا تزال ظاهرة الديجافو تُروى غالبًا بصيغة وجدانية أو روحانية.
فالبعض يقول: «الزول ده حسي شُفتو قبل كده في المنام»،
بينما يربط آخرون الأمر بـ الفراسة أو الرؤية السابقة للأحداث.
إلا أن الجيل الجديد من الأطباء وعلماء النفس السودانيين، مثل أعضاء جمعية أطباء الرعاية الأولية السودانيين ببريطانيا (SBPCA-UK)، يشرحون الظاهرة علميًا في الندوات التوعوية، مؤكدين أنها نتاج تفاعل عصبي طبيعي وليس له علاقة بالخوارق أو الغيب.
خاتمة
ظاهرة الديجافو تذكّرنا بمدى تعقيد الدماغ الإنساني، وكيف يمكن أن يربكنا في لحظة قصيرة بين ما هو حقيقي وما هو مألوف زائف.
هي ليست رؤية غيبية، ولا نبوءة، بل خلل مؤقت في ذاكرة الوعي يجعلنا نتذوق طعم الغموض في حياتنا اليومية.
قد لا نفهم تمامًا كيف ولماذا تحدث، لكنها تبقى واحدة من أروع الظواهر التي تكشف عن عمق عقولنا وغرابة إدراكنا للزمن.
شارك المقال