السيادة وحدودها في مواجهة القانون الدولي

20
محمد عبدالقادر

محمد عبدالقادر محمد أحمد

كاتب صحفي

• منذ أن خرجت البشرية من رحم الحروب الدينية إلى ما يسمى بالنظام الدولي، ومنذ أن وُقّع صك وستفاليا عام 1648، كان العالم يحتفي بولادة الكلمة السحرية: (السيادة). 

تلك الفكرة التي منحت الدولة الحق في أن تفعل ما تشاء داخل حدودها دون أن يسألها أحد: «لماذا؟». كانت السيادة أشبه بدرع ذهبي ترتديه الأنظمة لتدرأ به أسئلة العالم، وتتحصن خلفه باسم الاستقلال.

لكن العالم، كما نعرف، لا يترك أي فكرة نقية كما هي. ومع كل حرب ومأساة ومذبحة، بدأ هذا الدرع يتشقق. 

ظهرت الأمم المتحدة، وتفرعت عنها مواثيق واتفاقيات، ثم خرج القانون الدولي من بين الأنقاض يقول للدول «أنتم أحرار، لكنكم لستم وحدكم». 

ومنذ تلك اللحظة، بدأ الصراع الهادئ بين الحق في السيادة والواجب تجاه الإنسانية.

في تقديري أن القانون الدولي لا يسعى إلى مصادرة السيادة، بل إلى تهذيبها، فحين تنضم دولةٌ إلى اتفاقية أو ميثاق، فهي تمارس سيادتها في أن تتنازل عنها جزئيًا وتفعل ذلك طوعًا، لكنها في المقابل تعترف بأن استقلالها لا يعني أن تعيش بمعزل عن الآخرين. 

فالعالم اليوم ليس جزرًا متباعدة، بل شبكة مترابطة من الالتزامات. 

السيادة إذن ليست حائطًا، بل ميزان دقيق بين الحرية والمسؤولية.

غير أن هذا الميزان لا يعمل بعدل دائمًا. فعندما يرتكب حاكم جريمة ضد شعبه، يُرفع السؤال الأزلي: 

هل نتركه يحتمي بسيادته، أم نكسر الباب باسم العدالة الدولية؟ 

في هذا المفصل تظهر المحكمة الجنائية الدولية، ومبدأ عدم الإفلات من العقاب، وكل تلك المفردات التي تُبهج القانونيين وتُفزع السياسيين. 

لكن العدالة هنا ليست دائمًا عمياء، فالدول الكبرى تفتح عينيها جيدًا حين تُمس مصالحها، والسيادة بالنسبة لها مقدسة في عقر دارها، لكنها مباحة في ديار الآخرين. 

وهكذا تحولت العدالة الدولية إلى طقسٍ انتقائي يزور الضعفاء كثيرًا، ولا يجد الطريق إلى القياصرة.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن تطور القانون الدولي قد غيّر معنى السيادة نفسها، إذ لم تعد السيادة رخصة مفتوحة للحكم كيفما تشاء، بل مسؤولية تُسأل عنها. 

مبدأ مسؤولية الحماية (R2P) الذي أقرته الأمم المتحدة عام 2005 كان إعلانًا واضحًا بأن السيادة لا تُمنح مجانًا، بل تُجدد بالوفاء بواجباتك تجاه شعبك. فإذا فشلت، يتدخل المجتمع الدولي ،لا كغزو، بل كحجة أخلاقية على أن «ما يحدث داخل حدودك لم يعد شأنًا داخليًا حين يتجاوز حدود الإنسانية».

لكن المعضلة أن القانون لا يعيش في فراغ، بل في عالم تحكمه القوة. فالقانون الدولي بلا قوة يصبح أخلاقًا، والقوة بلا قانون تصبح فوضى. 

لهذا تظل السيادة بالنسبة للدول الصغيرة مثل المظلة في عاصفة جميلة الشكل، قليلة الجدوى. أما الكبار، فيملكون العاصفة ذاتها.

ومع ذلك، لا يبدو أن المستقبل يسير عكس القانون الدولي، بل نحوه. 

فالعولمة، المناخ، التكنولوجيا، الاقتصاد كل هذه الأشياء جعلت من فكرة السيادة المطلقة شيئًا من الماضي. فتغير المعنى من «أنا حر» إلى «أنا مسؤول». ليس أن تفعل ما تشاء داخل حدودك، بل أن تتحمل تبعات ما تفعل أمام العالم.

يبقى السؤال إذن: كيف نوازن بين السيادة والالتزام الدولي؟

الجواب ليس في الميثاق، بل في النضج. فالدولة التي لا تفهم أن سيادتها تقاس بقدرتها على العدالة لا بشدة خطابها، ستظل تخلط بين الاستقلال والعزلة. والسيادة التي لا تضبطها أخلاق تصبح استبدادًا، أما القانون الذي لا يحترم السيادة فيتحول إلى وصاية.

وفي هذا الفضاء الرمادي بين الاستبداد والوصاية، يحاول القانون الدولي أن يجد طريقه أحيانًا ببطء، وأحيانًا بسخرية القدر، لكنه في النهاية الطريق الوحيد الذي يمكن أن يجعل القوة تخضع للقانون، ولو بعد حين.

 

كاتب صحفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *