يوسف عبدالرضي2

يوسف عبدالرضي

شاعر وكاتب صحفي

• في السودان، حيث تتقاطع السحنات والأعراق وتتناثر القبائل على امتداد الجغرافيا، تتعدد الأصوات وتتنوع اللهجات. يقول المتخصصون إن عدد اللهجات في السودان يفوق المئتين والخمسين لهجة، وهو رقم يعكس ثراء التنوع الثقافي والإثني في البلاد. هذا التنوع كان يمكن أن يكون مصدر قوة وإثراء، لكنه في ظل الأزمات والحروب يتحول في كثير من الأحيان إلى مدخل للشقاق ومطيّة للفرقة.

ورغم تعدد اللهجات، درج الناس على اعتماد ما يعرف بـ»عامية الوسط» لغة للتفاهم المشترك، باعتبارها لهجة مفهومة في غالب الأرجاء. وعندما كان الجنوب جزءًا من السودان برزت «عربية جوبا» بوصفها لغة وسيطة سهلة وجميلة ساعدت على التواصل بين المكونات المتباينة. لكن بعد الانفصال واندلاع الحروب المتكررة، تراجعت تلك التجارب الجامعة، وباتت كل مجموعة لغوية تحتمي بلسانها الخاص.

غير أن الدستور السوداني حسم هذه المسألة، حين نصّ بوضوح على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة. هذا النص لم يكن مجرّد تفصيل قانوني، بل قاعدة للتماسك الوطني وضمانة للتواصل بين المواطنين. 

وعليه، يصبح من البديهي أن يتحدث المسؤولون بلغة مفهومة لكل السودانيين، خصوصًا حين يخاطبون الجماهير في لحظات حرجة أو أمام وسائل الإعلام. فاللغة ليست مجرد وسيلة للتخاطب، بل أداة رمزية تعكس الانتماء للوطن كله، لا لفصيل أو قبيلة بعينها.

لكن الواقع في سنوات الحرب الراهنة كشف عكس ذلك. فقد تعددت الجيوش، ومعها تعددت القيادات. وكل قائد يريد أن يثبت حضوره بين جنوده، وأن يظهر لهم بلغة الانتماء. وعندما «يرطن» القائد- أي يتحدث بلهجة محلية لا يفهمها سوى أبناء إثنيته – يرسل بذلك رسالة سلبية مزدوجة: الأولى للآخرين من أبناء الوطن الذين لا يفهمون ما يقال، فيشعرون بالإقصاء والشك. والثانية لجنوده أنفسهم الذين قد يظنون أن الانتماء العرقي مقدّم على الانتماء الوطني. هنا بالذات تبدأ ملامح الخطر.

لقد اعتقدنا طويلًا أن الدين يوحّدنا، وأن اللغة تجمعنا. لكن مشهد قائد يخاطب جنوده بلسان خاص، فيما الوطن يتشظى، يفتح الباب لجرثومة الهزيمة. فالجيش حينها يبدأ بالتآكل من الداخل، وتترسّخ الانقسامات على أساس إثني ولغوي بدل أن تقوم على أساس وطني جامع. والأسوأ من ذلك أن الحرب نفسها تتحوّل إلى «حرب داخل الحرب»: حرب على الثقة، على الانتماء، وعلى وحدة الصف.

التاريخ يعلمنا أن الجيوش التي لم تستطع بناء خطاب جامع ولغة مشتركة لم تنجح في الصمود. اللغة هنا ليست تفصيلًا ثانويًا، بل عنصر من عناصر العقيدة القتالية. فعندما يفقد الجندي الثقة في أن قائده يتحدث باسم الوطن كله، ينكفئ على ذاته وعلى مجموعته، ويصبح ولاؤه محدودًا. هذا الانكفاء هو التربة الخصبة لانتشار الشك، ومن ثم الانقسام والهزيمة.

إن التحدي الذي نواجهه في السودان اليوم يتجاوز السياسة والسلاح إلى ما هو أعمق: إلى مسألة الهوية والانتماء. وإذا لم نستطع أن نتوحد على لغة خطاب، فلن نستطيع أن نتوحد على مشروع وطني. فكما أن العلم يرفرف رمزًا للجميع، يجب أن تكون اللغة المشتركة راية جامعة أيضًا.

ولكي لا يُفهم هذا الحديث على أنه دعوة لطمس التنوع، فمن المهم التوضيح: اللهجات المحلية ثروة يجب الحفاظ عليها، وهي جزء أصيل من الثقافة السودانية. لكن لكل مقام مقال. ما يصلح للتخاطب اليومي في القرية لا يصلح بالضرورة في مخاطبة أمة بأكملها. المسؤول، والقائد خصوصًا في وقت الحرب، لا يتحدث باسم نفسه ولا باسم قبيلته، بل باسم السودان. ومن هنا يصبح واجبًا عليه أن يلتزم باللغة التي يفهمها الجميع، أي اللغة العربية، سواء بالفصحى أو بالعامية الوسطية.

قد يقول قائل: «لكن الجنود قد يرتاحون أكثر إذا خوطبوا بلهجتهم الأم.» هذا صحيح جزئيًا، لكنه يرتد إلى العكس سريعًا. فالجنود ليسوا أفرادًا معزولين؛ إنهم جزء من وطن وجزء من جيش متعدد. وكل رسالة لغوية مغلقة هي رسالة سياسية مغلقة أيضًا. وما أحوجنا اليوم إلى رسائل مفتوحة للجميع، إلى خطاب جامع لا يُقصي أحدًا.

إن ما نحتاجه حقًا هو أن ندرك أن وحدة الخطاب اللغوي جزء من وحدة القرار السياسي والعسكري. وإذا كان القائد يريد أن يحافظ على ولاء جنوده، فعليه أن يحافظ أولًا على ولاء الوطن كله. وعندما يرطن القائد، لا يظن أن أحدًا لن يلاحظ؛ بل على العكس، كل السودان يلاحظ، وكل السودان يقلق. والقلق في زمن الحرب بداية الانكسار.

باختصار: حين يرطن القائد، يبدأ الجيش بالتصدع، وتدخل الهزيمة من أوسع أبوابها. لذلك فإن الحفاظ على اللغة المشتركة ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية. هي صمام أمان الجيش، وهي جدار الثقة بين القائد والجنود، وبين الجيش والوطن.

وإذا أردنا أن نوقف الحرب، فالأمر لا يبدأ فقط بوقف إطلاق النار، بل بوقف «الرطانات» التي تزرع الشك وتفتت الصف. وحين يتحدث القائد بلغة وطنه، يفهم الجميع الرسالة: نحن معًا، لا متفرقون. نحن سودان واحد، لا جيوش متعددة. نحن ننتصر بالوحدة، لا بالشتات.

 

شارك المقال

1 thought on “عندما يرطن القائد

  1. حقيقة يعجبني جدا إختيار اتك لما تطرحه من مواضيع أكاد أجزم بأنك موفّق فيها جدا. بيد ان تسلسل الطرح ومنطقيته يضفي على المقال بعدا آخر.
    في كل يوم تخطو خطوات واثقة جدا نحو تحقيق المثقف الشامل والأديب المتنوع في إبداعاته.. نسأل الله لك التوفيق والسداد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *