
يوسف عبدالرضي
شاعر وكاتب صحفي
• عندما نتأمل خارطة السودان المترامية الأطراف، تتبدى أمامنا فسيفساء واسعة من السحنات واللغات والعادات. ورغم هذا التنوّع الكبير، يبقى الوجدان قريبًا والنفوس طيبة كأنها نسغ واحد يجري في عروق الوطن. وفي محطات الترحال بين مدن السودان، تظل بعض المدن مميزة بطابعها وعمقها الإنساني، ومن بين تلك المدن المتفردة، تبرز مدينة الدلنج، أو كما يحب أهلها أن يسمّوها: عروس الجبال.
لوحة طبيعية تأسر القلب
الدلنج ليست مجرد مدينة على سفوح جبال جنوب كردفان، بل هي لوحة مكتملة الأركان. جبالها الشامخة، خاصة في موسم الخريف، ترتدي حلة من الخضرة الزاهية وكأنها عروس تزدان بالزينة. الخريف هناك ليس مطرًا فقط، بل مهرجان للجمال الطبيعي؛ حيث تكتسي الأرض بالخضرة، وتفوح رائحة التربة المبتلة، فيغدو المشهد سيمفونية من ألوان الطبيعة العذبة.
لكن ما يميز الدلنج أن كل فصل فيها له طعمه الخاص؛ فالصيف مشمس؛ لكنه غير قاسٍ كما في مدن أخرى، والشتاء معتدل يغلف الناس بدفء إنساني قبل أن يغطيهم بالبرد. أما الربيع والخريف فهما موسما الصفاء والبهجة.
مدينة تحتضنك منذ اللحظة الأولى
أول ما يدهشك في الدلنج ليس جبالها ولا طبيعتها، بل إنسانها. فهي مدينة تستقبلك منذ الصباح ضيفًا مكرمًا، وفي المساء تجد نفسك وسط مجموعة من الأصدقاء، وما أن يطلع اليوم الثاني حتى تصبح واحدًا من أهلها. هذه خاصية نادرة لا تتكرر كثيرًا في المدن، لكنها جزء أصيل من روح الدلنج.
دخلتها وأنا أنوي الإقامة يومًا أو يومين فقط، فإذا بي أمكث فيها ست سنوات كاملة. ست سنوات جعلتني أحفظ تقاليدها وأعرافها، وأعيش دفء العلاقات الإنسانية فيها حتى صارت جزءًا مني.
في الدلنج الكل أخ وعم وخال، والجميع يتبارون في إكرام الضيف وإحاطته بالمحبة.
فسيفساء إنسانية متجانسة
الذي يزور الدلنج يدرك أنها خريطة سكانية متعددة الألوان والسحنات والقبائل. هي نموذج مصغر للسودان الكبير بتنوعه البديع. لكنها، على خلاف أماكن أخرى، لا تعرف العصبية ولا التنافر؛ فجميع القبائل هناك رضعوا الطيبة من صدر هذه المدينة الساحرة، فأصبحوا نسيجًا واحدًا متينًا.
لا أريد أن أفضّل قبيلة على أخرى، فجميعهم عندي سواء في الكرم وحب الحياة. لكنني لا أستطيع أن أغفل بعض الأسماء التي شكّلت بصمات في حياتي خلال إقامتي هناك:
* عم بشير، ذلك الهلالابي الجميل أطال الله عمره.
* بخيت دليل، المريخابي الأصيل، صاحب القلب الكبير.
* أخي حسنين، مرحوم، الذي كان له القدح المعلّى في مجالس الدلنج.
* الجنرال عابدين موسى حسن، والد الجميع، الذي احتضنني كالأب، وأسأل الله أن يسكنه فسيح الجنان هو وابنته المضيافة خميسة عابدين.
* ومن الشباب: سحنون وعوض الله، أحمد دارسعيد روحهم دوماً مفعمة بالحيوية.
* ومن الأخوات الكريمات: سعدية النعيم، التي لا أنسى فضلها في استضافة ابنتي طوال سنوات دراستها.
هؤلاء مجرد نماذج، وإلا فإن أسماء كثيرة تستحق أن تُذكر، فكل بيت في الدلنج هو عنوان للكرم وأبواب مفتوحة بالمحبة.
بين الأمس واليوم
المدينة لم تفقد خصوصيتها رغم ما مرّ عليها من تحولات. شوارعها تظل مليئة بالبهجة، وأسواقها تضج بالحياة، وأحياؤها تعكس طابعًا سودانيًا خالصًا يجمع بين الحداثة والبساطة. الدلنج مدينة تعرف كيف تصالح بين الأصالة والمعاصرة، وكيف تحافظ على ملامحها العريقة رغم تقلبات الزمن.
لقد تعلمت من الدلنج أن الجمال ليس في الطبيعة وحدها، بل في الروح الإنسانية التي تسكن المكان. فيها لم أشعر قط بالغربة، بل كنت في حضن عائلة كبرى، يتسابق أفرادها في البشاشة والترحاب.
مدينة تكتب في القلب
الحديث عن الدلنج يطول، فهي ليست مدينة عابرة في الذاكرة، بل صفحة مضيئة في كتاب العمر. هناك عرفت أن السودان في جوهره وطن للسلام والمحبة، وأن التنوع ليس سببًا للتنافر، بل مصدر ثراء وعمق إنساني.
الـدلنج ليست مجرد جغرافيا على خارطة الوطن، بل قيمة معنوية وحضارية. هي عنوان للكرم، ورمز للتعايش، ومدرسة في الإنسانية. وأحسب أن من لم يزرها فقد فاته أن يتعرف على وجه آخر للسودان؛ وجه البساطة الصافية والطيبة التي لا تعرف الزيف.
تحية إلى عروس الجبال
من هذا المنبر، أرفع قلمي تحية حب وتمجيد إلى مدينة الدلنج، إلى جبالها الشامخة وأحيائها العامرة، إلى نسائها اللائي يزرعن الفرح كما يزرعن الزهور، وإلى رجالها الذين يصونون العهد ويكرمون الضيف.
الـدلنج ليست لي وحدي، بل لكل من زارها، أو سمع عنها، أو عاش فيها. هي مدينة تنسج خيوطها في القلوب، وتترك أثرًا لا يُمحى. ومن حقها علينا أن نرفعها في مقامات الوفاء، وأن نرد لها بعضًا من جميلها.
سلامٌ على الدلنج.. عروس الجبال، مدينة القلوب، وموطن الطيبة الصافية.
شارك المقال