ود قسم الله وأبو آية.. لو فَدَى الحَيُّ مَيِّتاً

380
محمد المهدي

محمد المهدي الأمين

مستشار التحرير وكاتب صحفي

• الموت ليس سلباً للحياة، ولكنه انتقالٌ بها إلى حياةٍ أخرى بعد الموت، ثم حياةٌ أخرى بعد البعث. هكذا هي سنة الله في خلقه، فالموت أجل محتوم، وكأس كلّنا ذائقه، فمنّا السابقون ومنّا اللاحقون. كما أنّ
موت الصالح راحةٌ لنفسه من مكابدة الحياة وتبدل أطوارها، فلا يأمن الإنسان على نفسه الفتنة، وتغير الحال.

ونحن نعيش هذه الأيام العصيبة، التي تكالبت علينا فيها المنغّصات، وحلّت بنا الأوبئة، وأحاطنا بنا الموت من كل جانب، صرنا نودّع كل يوم عزيزاً، ونعود ننتظر القادم أيكون أحدنا من المشيِّعين أم يكون هو المحمول على أعناق الرجال.
خلال الأيام القليلة الماضية، فقدنا عزيزين من أعلام الحي، لكل منهما مكانة ومحبة في القلوب.
الفاتح قسم الله.. الفتى الذي شقّ طريقه في دروب الحياة، اقتحم سوق العمل صبياً فتعلّم وأجاد أكثر من حرفة، وقبلها تفوّق في علاقاته الاجتماعية، فقد كان قريباً من الجميع ومتفقداً لهم، أصيب بمرض قابله برضاء تام، رغم تأثيره في صحته وبصره، لكنه احتسب وصبر وأبدى روح لا تعرف غير الرضا والتفاؤل، فهو السبّاق إلى تفقّد الجيران، وأول المشاركين في المناسبات، وقد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالصف الأول في المسجد، فذاك كرسيه وإلى جواره مصحفه، وقد لزم حلقة التلاوة، واجتهد في تجويد القرآن.
عندما نعى الناعي الفاتح قسم الله عصر يوم، هبّ الجميع للمشاركة في تشييعه، وقد كانوا بالمئات، وكان ذلك إبان انعدام الوقود، ما أدى إلى توقف معظم وسائل النقل الخاصة والعامة، فكان الرأي أن يُصلى عليه أمام المنزل، وحمل الجثمان بصحبة عدد قليل من الحاضرين، لكن
في لحظة توفرت جميع أنواع وسائل النقل، فشارك الكل في تشييع الفقيد.
ولما تجف المآقي بعد من رحيل ود قسم الله، فإذا بالأحزان تتجدد بوفاة رجل يشهد له الناس بالخير والمروءة والإحسان، الفقيد أحمد محمد عبد الحليم (أبو آية) هو في مقام العميد في أسرته الصغيرة والكبيرة، كما أنه في مقام العمدة لجيرانه، تجده متفقداً أحوالهم، حباه الله سعة الصدر، ورجاحة العقل، حبّبه في الخير، وحبّب الخير إليه، غايته خدمة الناس، فما من مشكلة إلا وعنده الحل، وأحمد بين رصفائه هامة وشامة.
أما زملاؤه في شرطة الجمارك (مكافحة التهريب)، فيحدثونك عن أحمد فارس الفرسان، الذي يتقدم الصفوف عند الخطر، يذود عن زملائه، لا يرجو جزاء ولا شكوراً، فمثله مثل فارس عبس عنترة بن شداد
يغشى الوغى ويعفُّ عند المغنم.
انتقل ود قسم الله وأبو آية إلى الدار الآخرة، ولكننا نذكرهما بالخير، وكأنّ الشاعر عناهما بقوله:
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم

وفي أبيات ابن الرومي في رثاء ابنه تعبير صادق عن لوعة الفراق

بكاؤكُما يشْفي وإن كان لا يُجْدي
فجُودا فقد أوْدَى نَظيركُمُا عندي

ألا قاتَل اللَّهُ المنايا ورَمْيَها
من القَوْمِ حَبَّات القُلوب على عَمْدِ

لقد أنْجَزَتْ فيه المنايا وعيدَها
وأخْلَفَتِ الآمالُ ما كان من وعْدِ

لقَد قلَّ بين المهْد واللَّحْد لُبْثُهُ
فلم ينْسَ عهْدَ المهْد إذ ضُمَّ في اللَّحْدِ

عجبتُ لقلبي كيف لم ينفَطِرْ لهُ
ولوْ أنَّهُ أقْسى من الحجر الصَّلدِ

وإنِّي وإن مُتِّعْتُ بابْنيَّ بَعْده
لَذاكرُه ما حنَّتِ النِّيبُ في نَجْدِ

وأولادُنا مثْلُ الجَوارح أيُّها
فقدْناه كان الفاجِعَ البَيِّنَ الفقدِ

لكلٍّ مكانٌ لا يَسُدُّ اخْتلالَهُ
مكانُ أخيه في جَزُوعٍ ولا جَلدِ

هَلِ العَيْنُ بَعْدَ السَّمْع تكْفِي مكانهُ
أم السَّمْعُ بَعْد العيْنِ يَهْدِي كما تَهْدي

أعَيْنَيَّ جُودا لي فقد جُدْتُ للثَّرى
بأنْفِس ممَّا تُسأَلانِ من الرِّفْدِ

أقُرَّةَ عيني لو فَدَى الحَيُّ مَيِّتاً
فَدَيْتُك بالحَوْبَاء أَوَّلَ من يَفْدِي

ألامُ لما أُبْدي عليك من الأسى
وإني لأخفي منه أضعاف ما أُبْدي

محمَّدُ ما شيْءٌ تُوُهِّمَ سَلْوةً
لقلبيَ إلا زاد قلبي من الوجدِ

وأنتَ وإن أُفْردْتَ في دار وَحْشَةٍ
فإني بدار الأنْسِ في وحْشة الفَرْدِ

عليك سلامُ الله مني تحيةً
ومنْ كلِّ غيْثٍ صادِقِ البرْقِ والرَّعْدِ

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *