• مع تطور الحياة بصورة متسارعة منذ بداية القرن العشرين، وإدخال الإنجليز شكل حياة حديثة نتيجة لاستعمارهم هذه البقاع من أفريقيا، وظهور المدينة بشكلها الحديث، تعاقبت عدة أجيال لا تعرف عن الريف الكثير، وأصبح كثير من الناس يتساءل كيف يقضي الريفي يومه؟
وكيف يكسب الريفي عيشه؟ وهل الحياة في الريف مملة؟ فعلى عكس المدينة لا توجد في كثير من الأرياف كهرباء، أو تلفزيونات، أو وسائل ترفيه حديثة، ولا توجد فيها مصانع كبيرة، أو مؤسسات ضخمة لتشغيل الناس، فكيف تكون الحياة هناك؟ فعلى عكس الجواب المتوقع؛ الريف يمتلئ بالحيوية، وينبض نشاطاً وصفاء وحباً ونقاء، فالريفي على سجيته دائماً يحب الحياة، ويقضي كل حياته مخلصاً لأعماله التي ورثها أباً عن جد، ولقيمه وأخلاقه، ولكن ما تلبث أن تحاصره المدينة، وتدخل إليه خلسةً بقيمها وأخلاقها وحداثتها.
فهذا الجيل يقاوم؛ ولكن ما يلبث أن ينهزم الجيل الذي يليه، ويتحلى ولو بجزء من مظاهر المدينة ليدخل في صراع (ريفي ريفي) لصالح المدينة، فأدوات المدينة في هذا الصراع هي الأقوى، فالتعليم التقليدي في الخلاوي سيندحر أمام مد التعليم النظامي وهيبة الأفندية، وأدوات الإنتاج التقليدية في الزراعة ستنحسر أمام الوابورات والتراكتورات، وسلطة الشيخ والعمدة ستقل أمام سطوة الضابط الإداري الحكومي، والزي التقليدي سيبدأ في الانحسار تدريجياً أمام مد البنطلونات والبدلات والإسكيرتات والتشيرتات الحديثة، واللغة المحلية سيقل استخدامها أمام سطوة اللغات المكتوبة العربية والإنجليزية، وبريق الوظيفة يغري بسطاء الريف ليحول حلمهم أن يصيروا أفندية يوماً ما.
لذلك تجد الريفي يدفع بابنه إلى المدرسة حتى ولو لم يكن لديه القناعة بجدواها، يكفي أن يصبح ابنه يوماً ما أفندياً. وعمر الزواج سيزيد تلقائياً؛ فبدلاً من أن يتزوج الشباب في عمر السابعة عشرة والبنات في الثالثة عشرة، لم يعد الأمر كذلك، وتحل الأدوية الحديثة محل الأدوية العشبية التقليدية كالعرديب واللالوب والقرض. وبيوت الطين والطوب أصبحت تزاحم بيوت القطاطي والرواكيب (التي حلمها أن تبقى أكبر من مدن)، وأغاني الفنانين الكبار التي تصدح بها الإذاعة، تحل محل أغاني البنات المتوارثة ذات الإيقاع الريفي الجميل، والأخطر من ذلك سيصبح جزء من أهل الريف- الذين تلقوا تعليماً نظامياً- يدافعون عن قيم المدينة، وينشرونها بين الناس، في خيانة واضحة لريفيتهم. ولا ادري أخير ذلك أم شر، ولكنها سنة الحياة، ولا أدري لماذا قال سيدنا يوسف: (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو…).
أمام هذه التحولات والتغيرات، يحق لنا أن نتساءل: (هل القرية هي بنت المدينة) التي حتماً ستتطور مع الزمن لتصبح مدينة يوماً ما؟.. أم المدينة هي بنت القرية المتحورة؟
يحيلنا السؤال إلى أن نبحث عن (قصة الإنسان) منذ أن وجد في هذه الكرة الأرضية. والسلام