
مرتضى يوسف العركي
كاتب صحفي
وقائع تمت بمعالجة
• كان الوقت ليلاً خدمة ثالثة (إصطلاح شرطي) من صيف 1987الغائظ دلفت ومعي ثلة من زملائي بكلية الشرطة بعد رمانا أحد بصاتها التاتا الأزرق العتيق والذي تحرك من مبانيها ببري إلى مبنى القسم الجنوبي أم درمان وقد أتخمنا بطئه نعاساً وتثاؤباً ونوما حيث دفعت بنا الكلية وونحن ثلة من طلابها لتدريب عملي لما يسمى كورس البيتس (العسكري النفر) في تلك الإنحاء ليضرب القدر لنا لقاء عن قرب وكثب مع أخطر مجرمي سطو آوانها (أبو فاس وأبو ساطور) على مستوى الخرطوم بمهنيتهما الفذة وحرفيتهما العالية فغديا أسطورة يهابها الجميع عجزت الشرطة عن اسقاطهما فترة بيد أنهما يصمدا طويلا فأنتهيا إلى أحدى حراسات القسم المظلمة كليله الطويل.
جلسنا في تلك الليلة نتفيأ ساحة القسم الجنوبي بعد ان رحب بنا الضابط المناوب حينها وعاملنا بصورة محترمة وحانية مسحت عنا كثير قسوة مورست فينا منذ إلتحاقنا بكلية الشرطة نبدو ككلاب الحر ضمرت أجسادنا وتغيرت مفاهيمنا وأكسبتنا التدريبات القاسية شدة وقوة بدنية هائلة في ذلك العمر الفتي بالشرطة نتشكل في قوة ضاربة قادرة تمتلك دواخلنا شيئا فشيئا وعشقنا لحماية أنساننا ومكتسبات لخرائط مليون ميل مربع واضحة الحدود والمعالم والملامح بقيم محمد احمد السوداني الأغبش الذي لا يرضى في الحق هدية.
ربما كانت المفارقة فرط سعادتنا بذلك الضابط الحذق الذي أكرمنا واحسن معاملتنا فهو من الذين يدلفونك ويجتاحونك قبولا في برهة زمان حيث طلب من الرقيب المناوب إقتياد كلا من اب ساطور واب فأس من الحراسة كحدث أستثنائي بالقسم يومها للتعرف علينا نحن السادة الضباط والتي أكرمنا بها الرجل تجاوزاً لحجمنا الحقيقي من كوننا مجرد مستجدين في جلسة ما منظور مثيلها برغم أنها مع أخطر مجرمي سطو مسلح حينها غيرت كثيراً من مفاهيمنا وأرتقت بتفكيرنا بصورة مغايرة لما كنا عليه ما أجمل أن تتلمس دواخل إنسان بصرف النظر عن كونه مجرماً أم قديساً خيراً حينها ستدرك لا فوارق كبيرة بين الأثنين.
ارتجل الضابط المناوب قائلاً اخوتي الضباط اقدم ليكم نجمين من أشفت من ما قابلت في عالم الليل والمجازفات طبعا يا سادة ما داير فهمكم يمشي زي فهم الناس الملكية ديل خطرين وفي نفس الوقت محترمين أكن لهما أنا شخصيا كل أعجاب وتقدير أنا عاجبني زكائهما وأجزم لولا ظروفهما الشترة كان مفروض بشطارتهم دي يبقوا دكاترة وعرفت أنهم ما كانوا بفوتوا العشرة الأوائل في المدرسة كان الرجل يثني عليهما بصورة مغايرة لفهمنا بينما تزداد ملامح وجهي الرجلين غبطة وسرور ووضاءة وأرتياح لهذا الثناء المبهم الغريب.
وأستطرد تعال يا بوليس الحراسات ديل بربطوهم مستنكراً …. ديل أسدين حرين أسياد ليل فك عنهما قيدهما وجيب ليهم كرسين ديل الليلة تحت ضيافتي والزملاء الضباط المرتقبين وقاد الرجل حواراً عميقاً دافئاً أستدعيه حرارة ولون وطعم برغم مرور كل هذه السنين الطويلة.
بعد أن جلسا وأسترخيا وحررا من القيد وجها لوجه معنا … ملامح الأول أبو ساطور كان رجلاً طويلاً مفتول العضلات قاسي الملامح يستطير الشر من نظراته المرتخية للأسفل بحياء واضح يرتسمه برغم محاولته جاهداً إخفائه بيد ان شكله يناقض دواخله فهو طيب القلب صفي النفس ضل طريقه بصورة ما بينما كان اب فأس قصير مفتول هادي الملامح جاد القسمات في وجهه جرحاً غائرا يملأ جل وجهه اسبغ عله شرا وشقاء يميل إلى الصمت والاشمئزاز والغموض.
ـ الضابط يا اب ساطور تعرف المحيرني معاكم أنا جبان والله ما بقدر إتجرأ زيكم وأدخل لي بيت نص الليل وما عارف المنظرني فيهو شنو كلب ينط فيك يعضيك ولا سيد البيت عندو مسدس ولا بندقية ولا مصيبة زمان افكها فيك عليك الله انتو الجراة البتعملوها في شغلكم دي كيف؟
لم أصدق وأنا اتبين ملامح الرجلين اللذان بدأ عليهما الأرتياح والزهو خاصة وأن الرجل أخترقهما بحرفية عالية في التعامل كلياً وولج دواخلهم بود ويسر كيفما وقد أحترم انسانيتهما وفك قيدهما وأثنى عليهما وأكرمهما جلوساً وبرر ظروفهما التي أوصلتهم إليه وإستعاض بأدب في مجمل حواره معهما بتفادي الكلمات التي تحرجهما منها مثلا بشغلكم عوضاً عن سرقتكم مارس خلالها حذقية عالية ومهنية محترفة في التحري الغير مباشر لا أدرى أين هو الآن قطعاً طالته أيادي الصالح العام التي فتكت بكفاءات الوطن عنوة وترصد واصرار.
اب ساطور : والزهو يملأ الرجل.. تعرف يا جنابو والله أنا أجبن منك وأجبن خلق الله ما تشوف جتتي الكبيرة دي تغشك وكذلك الفردة أبو فاس من بندخل بيت إلا ونحن بنعرفو وبنعرف ناسو. نحن مفتحين يا سعادتك نحن كده( أشار بأصبعه إلى عينه)
الضابط : كيف دي أنا ما فاهم حاجة ؟
أب فاس :(تداخل لأول مرة بصوتة الخشن الأجش) يا جنابو أبو ساطور ده بتاع نجره فاكيها في نفسو وكلامو كثير انا أوريك قصدو نحن بنتخير المكان والناس البنمشي ليهم يعني ما ممكن نمشي أم بدة ولا الحتات الشعبية التعيسة ديل يا جنابو ناس بائسين ما عندهم حاجة وهم ذاتهم يائسين تهبشهم اتشالبوك زي كلاب الحر تسرق منهم ملاية واحدة زي السرقت منهم مليون دولار يسكوك من شارع السبيل لحدي سوق ليبيا ويمكن يجازفوك لحدي حدود ليبيا ذاتها ودي مجازفة ما بنخش فيها.
أب ساطور : محاججاً والله يا جنابو المنظراتي يا أبو فاس ما أنا .. أزيدك يا جنابو كمان ناس الطائف والمنشية ديل والناس الراحات ديل برضو نحن ما بنصلهم ولا بنقربهم بناهم مسلح وعجيب وما في طريقة تقعد الليل كلو تكسرو وما بنكسر ليك للصباح تضيع وقتك ساكت والناس ديل حكومة والناس الوهم مظلومة ومهمين عندهم عساكر حرس وحديد تقيل ممكن انيشوك بطلقة ولا راجمة اجيبوا أجلك.
الضابط: طيب لا هنا التعبانين اليائسين ناس امبدات لا المرتاحين ناس القروش والحكومة بتاعين المنشية والطائف بتشتغلوا وين يعني؟
اب ساطور : ألزم الصبر يا جنابو مش زي ما بقولو ناس الدين والحجبات ديل خير الأمور أوسطها نحن زيهم متخصصين نجازف الخرطوم ناس نمرة (2) ونمرة (3) ديل بنوا زمان بناهم ما قوي شديد وكمان أولاد أصول وعينهم ملانه مرتاحين من زمان وكمان فاهمين وحنيين وهم فلسوا بس لسع عندهم باقي عز حكمة الله بنعرفهم وبعرفونا وهم بالنسبة لينا زبائن يشهد الله يا جنابو ديل نحن عادين معاهم الحالة واحدة أول ما ندخل ليهم بنفتش الثلاجة ونطلع الأكل نأكل الثمينة أول شيء أكلهم سمح خلاص بعد داك نلقط رزقنا.
الضابط : كلامكم ده مقنع لحد ما يا شفوت شغلكم ده في بيوت ناس عرفتوهم وعرفوكم ما تدقسوني انا ذاتي مفتح كده أنا سوالي عن أول بيوت دخلتوها دي ما كنتو بتعرفو الناس الفيها عرفتوهم بعد داك جاتكم الشجاعة دي من وين ؟
اب فاس : يا سعادتو في داعي للإحراج ده أول مرة وكل مرة نحن بنساعدها بمريسة ولا كجومورو بس نحن محترفين وشفوت والمجازفة دي بنعملها مضطرين المشكلة ما في دخول البيت المشكلة في أنك تجازف ناس البيت ديل بعد ما تكون انت جوه الكيس.
الضابط : ما فهمت ..فهمتوا حاجة يا ضباط ..كدي أشرح لينا يا علماء ؟
اب فاس : تعرف يا جنابو نحن ما علماء نحن الحياة والمعاناة علمتنا وبقينا راسطات لمان ندخل بيت بنتعامل مع ثلاثة أنواع من البشر الساكنينو أول نوع ده الزول يكون نايم وده عندنا زول كويس والنوع الثاني بكون صاحي وخايف مننا وده نحن ما بنخجلو ونوصل ليهو أنو نايم فعلاً مثلاً في الحالة دي بقول يا اب ساطور الشفت الجنبك ده صاحي ولا نايم بجاوبني بقول نايم على كدة الشفت ما بخجل وبعمل نايم فعلاً وبكده نحن عالجناهو أما النوع الأخير ده ديل بكرهم عديل كده مزعجين الواحد فيهم يتقلب لا تعرفو صاحي لا تعرفو نايم في الحالة دي بنحسمو طوالي أنا بقول يا أبو ساطور الشفت البتقلب ده كان رفع راسو شقو ليهو نصين وحاتك بعدها يهمد ما يرفع راسو كلو كلو
الضابط : طيب يا أب ساطورعايز تقنعني أنت وفردتك اب فأس فاكين فينا جكتكم من قبيل بشفتنتكم ومهنيتكم العالية وحرفنتكم في اختيار الكدة المغتم وعاملين لي فيها راسطات مفتحين وانتو حسب علمي قبضكم عجوز فاني فات الثمانين عام بضربة واحدة؟
ـ اب ساطور: الله لا كسبو لا دنيا وآخرة عمك الجلك العامل زي الشخيت طلع لينا من وين نقول شنو قدرنا كده يا جنابو والله لو حكيت ليك ما حتصدق بس داير لي سجارة حمراء برنجيه يا سعادتو عشان اصحصح وانبهل ليكم صاح .
في انتظار السجارة البرنجية الحمراء سرحت بعيدا .. ربما ثلاثون عاما شتان ما بين حرامية تلوب الزمان ديلك بتاعين الله ورسوله ناس أب ساطور وأب فاس وحرامية حاضرنا الماثل البئيس والذي لا تسير أيامنا فيه كما هو متعارف عليه خلافا لسنن الكون ونواميسه فمن الطبيعي أن يتبدل السلوك الإجرامي للحرامية بإختلاف أنواعهم من حرامية سطو مسلح لأقل خطراً بتاعين سرقات ليلية منزلية إلى سرقات نهارية نزولا لمجرد نشالين ويتبدل معه السلوك الشرطي المحارب والمكافح له وتطورهما الطبيعي سوياً في سجال أزلي مستمر .. تصدقون أن طرفي تلكم المعادلة تغيرت شخصيتهما النمطية كلياً على مستوى شخوصهما وطبيعة عملهما وأولوياتهما وحتى مراكزهما القانونية القائمة فالسلاح يحمله كل من هب ودب في وطن مغلوب على أمره وجل اللصوص من الجهاز التنفيذي للدولة يا لمفارقات الزمان تغييرالمجرمين الخطرين الذين تحتبس الأنفاس وتروع من جرائمهم لمجرد زكر أسمائهم التي عادة ما تكون ألقاب خطيرة بأجسادهم الضخمة المفتولة المبللة بالجرأة والعرق والظلام والمجاذفة والعراك والهرولة ليتبدل حرامية اليوم إلى لصوص ناعمين لمجرد إنتمائهم لجغمة ظالمة أفقرت الشعب وسرقت أمواله بلا رحمة سواء من بعض موظفي الدولة واقاربهم أو منتسبي حزب سياسي أو منتفعين إنتهازيين ثيابهم غالية وشالاتهم وعممهم السويسرية راقية وبدلات كنغولية أطالوا اللحي يهمسون بصوتهم الخفيض كانهم هداة مرسلين بينما لا يتورعون عن اللقف على العيان في رابعة النهار بدم بارد ولا ترمش لهم طرفة عين يا لسيرتهم المقززة التي تشمئز منا النفس وتزور أعود لأحبائي لصوص زمان القدامي فهم لذيذين ومرحين فهم والله اقرب إلى نفسي داهمني حينها استاذنا كامل عبد الماجد
البلد كانت رخية لا كلاش لا بندقية
القروش تكفي وتفضل حتي لو كانت شوية
صاح زمانا الزاهي مرة وتفضل الذكري الحبيبة
نارا توقد مرة مرة
لا انسى كيف تنفس أبو ساطور سجارته البرنجي الحمراء بتلذذ زائد ومزاج عالي بينما وزعت كبابي الشاي بالعدد مستطرداً تعرف يا سعادتك ونحن يومها داخلين لبيت نمرة ثلاثة مش المثقفين ديل بقولو عنتر قتلو اعمى والله ده الحصل لينا أرتكبنا خطآ فادحاً شفنا سرير في الحوش راقد فيهو عمك الجلك الكبيرما من ناس البيت والله يا جنابو الزول ده نحيف وناشف زي السوط وعلى شفا الموت أهملنا أمره بإعتباره ضيفاً عجوزاً ولياقته لا تساعده معنا المهم دخلنا أكلنا العضة الثمينة وشلنا الفيها النصيب وفيما يبدو الرجل قريب ناس البيت جاهم من الشمالية أستيقظ ليتجمر في حمام الحوش الخارجي ولاحظ جلوسنا وخمجنا واكلنا من بالثلاجة بإطمئنان من خلال الأنوار التي قمنا بإضاءتها والرجل أمام مدخل المنزل إنتظار الضابط وبعدين ؟
اب ساطور : يعلم الله يا جنابو عمك الجلك الشخيت ده بقى الف ونحن متخارجين رقد لينا بعكاز واحد في ركبينا دي خلانا ما قادرين نزحف وكعة قاسية من عكازو الناشف زيو لكل واحد في ساقو عطلنا تماماً وقام يكورك لناس البيت الذين ترجوه وهم من البعد خايفين بأن يتركنا وأننا مساكين ومحتاجين وبكو ليهو عديل كده عشان إفكنا نهرهم نهرة واحدة حسم بها الأمر وأحضر حبلاً وهو في قمة سعادته يدوبي ليهو بكلام ما عرفناه ويرقص ويعرض ربطنا به سويا زي البربط ليهو في كليقة قش ولحظنا العاثر أتتت على غير العادة دورية سواري مارة بشارع البيت إلتقطها العجوز لنا فأكملت القبض علينا ومن يومها ونحن لينا ثلاثة شهور ينقلونا من حراسة لحراسة مستمرة لأقسام الخرطوم الفيها بلاغات قديمة ضدنا للتحري معنا فيها لحد ما وصلنا ليكم هنا 0
أتساءل وإن إمتلكا لصينا اللذيذين اللياقة المستحيلة بعد هذه السنين العجاف والجرأة المطلوبة ونجحا في الولوج لمبتغاهما مع لصوص اليوم الكبيرة أسماؤهم والواضحة عناوينهم والمنشورة على الملأ ممتلكاتهم وارصدتهم ومعروضاتهم فماذا تبقى من الوطن بالله ليسرقاه ولا تستقيم قياسات الجريمة بين طرفيها المعروفين كخصمين وسجالهما الأبدي المستمرفيما بين وقوعها ومكافحتها ربما لمجرد فقط شكل لصنا الجديد بمنصبه الرسمي يطلق كلتا يديه في مال الشعب المستباح وتقسم بين نخبه السياسية والحزبية واقربائهم بتراتبية مستفزة بينما الشرطة أنتزع دورها وسيرت لتكون من ضمنهم فما أتعس وطن تنتابه محن الزمان والعثرات يستجير بالماضي ويبذل الجهد والوقت والأماني على غياب زمن القيم والأخلاق الشهامة للأسف حتى في شكل وأخلاق اللصوص.
للمتعال نشكو ضعنا وإليه انيبنا
شارك المقال