الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• إذا كنت تظن أن الدوائر الحكومية في السودان هي ملاذ العدالة وحامية الحقوق، فدعني أحدثك عن مسرحية العبث التي تُقام هناك. إنها مسرحيةٌ لا يعرف أحد فيها من هو المهرجّ ومن هو البطل، ولكن الضحايا الحقيقيين هم أولئك الذين أُرسلوا إلى متاهة (المعاش) دون أن يُعطوا حتى خبزهم اليومي. نعم، إنها قصة من يُؤكل لحمهم ويُرمى عظمهم.
القرارات التعسفية بالإحالة إلى المعاش دون صرف مستحقات نهاية الخدمة، تترك الموظفين في حالة يأس مالي شديد. الكثيرون منهم يعيلون أسراً، ويتحملون التزامات مادية ضخمة، وفقدانهم رواتبهم الشهرية يعني انهيار حياتهم بالكامل. وإلا لِمَ سُمّي (معاشاً)؟!
صحيح أن القضاء والتعليم هما رأس الحكاية، ولعلهم من بادروا بالشكوى لي، لكن القصة نفسها تتكرر في كل وزارة، في كل دائرة، في كل مدينة بائسة من مدن هذا السودان المكلوم المخروق.
السؤال الأبسط الذي يطرح نفسه: إذا كانت الدولة غير قادرة على صرف مستحقات نهاية الخدمة، فلماذا لا تترك الموظف في منصبه حتى يتقاضى راتبه الشهري؟ سؤال يحتاج إلى إجابة بسيطة، لكن يبدو أن الإجابة معقدة، كالقوانين التي يضعونها لحماية أنفسهم.
هذه القرارات لا تعكس فقط سوء التخطيط المالي للدولة، ولكنها أيضاً انعدام للرحمة الإنسانية. فالدولة، التي يفترض أن تكون حامية لمواطنيها، تتحول إلى جلّاد يزيد من معاناتهم.
ما يحدث في السودان هو صورة مأساوية لعدالة مُغَلَّفة بالفساد. الدولة التي لا تستطيع أن توفر لموظفيها حقوقهم الأساسية، تتصرف كما لو أنها تقوم بعملية (تنظيف)، ولكنها في الحقيقة تُغرق البلاد في مزيد من الفوضى والقذارة.
صار الموظف في الجهاز القضائي وكذلك المدرسون يحسبون أيامهم بقلق. مدرس تاريخ كان يشرح للطلاب عن حضارات ماتت، لم يعلم أنه سيكون جزءاً من تاريخ يُنسى. جاءه القرار مع نهاية الفصل الدراسي: إحالة إلى المعاش. لم يحصل على مستحقاته، لم يحصل حتى على شهادة شكر. فقط ورقة بيضاء، كاللوح الذي كان يكتب عليه، مُحيت كل كلماته.
سأل: «كيف أطعم أطفالي؟»
قالوا: «الباب مفتوح للشكوى». لكنه يعلم أن أبوابهم مغلقة دونه، لكنها مفتوحة على جهنم وبئس المصير. إلا أنه غير قادر على إفشاء سريرته.
ذهب يطرق الأبواب.. أبواب موصدة. كالقصيدة التي كان يحفِّظها لتلاميذه: «يا أيها الرجل المعلم غيره ** هل لك بالنفس فاستدرها وعلمها؟».
هم قادرون على أن يحيلوك إلى المعاش، لكنهم غير قادرين على أن يعطوك معاشك. قادرون على أن يوقفوا راتبك، لكنهم غير قادرين على أن يوقفوا فسادهم.
يجلس الرجال والنساء في بيوتهم. ينتظرون. بعضهم يموت قبل أن يأخذ حقه. بعضهم يبيع آخر ما يملك. والبعض يتحول إلى شحاذ بلا ملامح.
الدوائر الحكومية تتحول إلى مقابر للكرامة. يدخل فيها الأحياء، ويخرجون أمواتاً معنوياً. حاملين معهم كل شيء: الأمل، والخيبة، وأوراق القرارات البالية.
هل هذه عدالة؟ أم أنها مهزلة كبرى، نعيشها كل يوم، ونضحك عليها كي لا نبكي.
والمسؤولون في مكاتبهم الواسعة، يجلسون كالملوك على كراسي عالية. يهمهم مخصصاتهم، ويراقبون حساباتهم، ويعدّون المكافآت التي ستأتي. أما معاشات الناس، فلا بواكي لها.
ينظرون إلى الموظف العجوز الذي أمضى عمره بين الجدران الرمادية، فيرون رقماً يمكن شطبه. لا يرون إنساناً له أولاد، وله دين، وله كرامة يجب أن تُصان. يناقشون الميزانيات في غرف مكيّفة، بينما خارج مكاتبهم، هناك رجال يتيهون في الشوارع، لأن معاشهم محجوز رغم ضآلته، وقد يكون بقدر ميزانية سفرية داخلية لمديرهم المبجل.
لكن المسؤولين لا يسمعون هذه الشكاوى. أصوات الناس لا تصل إلى غرفهم المغلقة. هم مشغولون بحساباتهم، وبمصالحهم، وبالجلوس في المقاعد التي تمنحهم السلطة.. السلطة التي تستخدم أحياناً لتحطيم الإنسان، لا لبنائه.
وهكذا تمضي الدولة، كسفينة ثقيلة، تحمل المسؤولين في الطابق العلوي، بينما الغالبية يغرقون ببطء في الطوابق السفلى. والمسؤولون ينظرون إلى البحر من عليائهم، لكنهم لا يرون من يغرق. هم يهتمون بأنفسهم فقط، وكيف يصلون إلى الشاطئ بأمان، ولو على جماجم الآخرين.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *