هل يمكن أن يعود إنسان السودان كما كان؟

232
يوسف عبدالرضي2

يوسف عبدالرضي

شاعر وكاتب صحفي

• في خضم ما نعيشه اليوم من أهوال الحرب والشتات والفقد، يتبادر إلى ذهن كل سوداني سؤال مؤلم، لكنه مفعم بالأمل: هل يمكن أن يعود إنسان السودان كما كان؟

ربما يبدو هذا السؤال مستفزًا في ظل الواقع المرير، لكنني أجيب عنه من دون تردد أو شك: نعم، يمكن أن يعود. بل وأكثر من ذلك، يمكنه أن يعود أقوى وأجمل مما كان، لأن معدن هذا الإنسان لم يصدأ بعد، وجذوره ما زالت ضاربة في عمق الأرض، حيث تنمو القيم السودانية الأصيلة التي تميزنا عن غيرنا.

الإنسان السوداني… نسيج من تسامح وتعايش

لم أجد أي عناء أو تعب وأنا أجيب عن هذا السؤال، لأنني أرتكز على إرث ثقافي واجتماعي هائل، موروث من أجيال سابقة، صنعوا من السودان بلدًا فريدًا في تركيبة مجتمعه وقيمه.

السوداني بطبعه إنسان مسامح، عطوف، طيب النفس، محبٌّ للآخر، ولا أقول هذا انطلاقًا من عاطفة وطنية فقط، بل من تجارب حقيقية ومشاهد متكررة، لا يمكن أن تُفسّر إلا بوجود بنية أخلاقية عميقة تشكّل الوجدان السوداني.

من منا لم يشهد مجالس الصلح في الريف أو المدينة؟ من لم يرَ «الديات» تُعقد في لحظات عصيبة، بين قبائل أو أسر أو أفراد؟ ورغم أن الدم لم يجف بعد، تجد أن السلام يعم، والقلوب تصفو، والتعايش يعود، وكأنّ ما حدث لم يكن إلا سحابة صيف.

رأيت في حياتي أبناء القاتل يوزعون الضيافة في عزاء القتيل، لا من باب الاستفزاز، بل من باب الإيمان بأن ما جرى قضاء وقدر، وأن الدم لا يجب أن يورّث حقدًا، بل أن يتحول إلى دعوة للصفح وإنهاء الخصومة.

هذا ليس خيالًا، بل واقع سوداني صرف، ومشاهد موثقة، عشناها وشهدناها بأعيننا.

الحرب تغيّر الإنسان، لكنها لا تغيّر معدنه

نحن لا ننكر أن ما يحدث الآن في السودان من حرب ودمار وشتات، قد ترك أثرًا عميقًا في النفس، وأجبر الكثيرين على تبني سلوكيات لا تشبههم. لكننا نعلم يقينًا أن هذه ليست النسخة الحقيقية من الإنسان السوداني، بل هي حالة طارئة، وُلدت من رحم الحاجة والخوف والجوع والانكسار.

إن الحرب، في كل مكان، تسلب الإنسان جزءًا من إنسانيته، وتدفعه إلى الحافة. لكنها لا يمكن أن تقتلع الجذور، ولا أن تمحو الذاكرة الجمعية التي نشأنا عليها جميعًا.

هل تتوقف الحرب فيعود كل شيء كما كان؟

نعم، وبثقة أقول: إذا توقفت الحرب اليوم، فإن الحياة يمكن أن تبدأ غدًا كما كانت. لأن ما في نفوس السودانيين من قيم ومبادئ راسخة، تجعلهم قادرين على نسيان المرارات، ومسح الأحزان، واستعادة التوازن، كما فعلوا في مرات كثيرة سابقة.

لسنا شعبًا يعيش على الثأر، ولا نحتكم إلى الضغينة. بل نعيش على الكلمة الطيبة، والمبادرة بالسلام، وتحكيم العُرف، والرجوع إلى كلمة الحكماء والمشايخ وأهل الحل والعقد.

ولذلك، حتى في عزّ الانهيار، ترى مجالس الصلح لا تزال تُعقد، والدماء تُحقن، والخلافات تنتهي من حيث بدأت، دون أن تتضخم وتتحول إلى نزاعات مزمنة. وهذه قدرة نادرة لا يملكها كثير من شعوب العالم.

الشعب الذي يستطيع أن يسامح، يمكنه أن ينهض

السودان اليوم جريح، لكن الجراح لا تعني الموت. فالشعب الذي يستطيع أن يسامح، رغم كل ما فقده، ويبتسم رغم كل ما خسره، هو شعب لا يمكن أن يُهزم.

وإنسان السودان قادر على أن يعيد ترتيب حياته، ويبني مجتمعه من جديد، ويغفر حتى لأكبر الجراح. كيف لا، وهو الذي عاش حروبًا من قبل، لكنه دائمًا ما يعود إلى ما يميّزه: التسامح، الكرم، والطيبة.

هذه ليست أمنية شاعرية، بل حقيقة يعرفها كل من عاش بين السودانيين، وعرف معدنهم الأصيل.

دعوة للسلام… من أجل عودة الإنسان

ختامًا، أقولها بصدق: الإنسان السوداني لم يتغيّر، بل أُجبر على التغيّر. وما إن تتوقف الحرب، وتُفتح نوافذ السلام، حتى يعود كما كان… بوجهه البشوش، وسماحته الفطرية، وقلبه الكبير.

نعم، يمكن أن يعود إنسان السودان كما كان، بل وربما أفضل، فقط إذا مُنحت له الفرصة أن يعيش كما يريد، لا كما يُجبر.

فليكن هذا المقال دعوة للسلام، ونداءً لأن نُعيد لإنسان هذا البلد حقه في الحياة، وكرامته في وطنه.

 

شارك المقال

1 thought on “هل يمكن أن يعود إنسان السودان كما كان؟

  1. إلى حد كبير جدا لا اتفق مع الأخ الأستاذ الشاعر / يوسف عبد الرضي الكاتب الصحفي فيما ذهب إليه من ( تهوين) ما احدثته الحرب اللعينة في نفسية المواطن السوداني وما أظهرته من سوءات كانت خافية أو ( متخفيِّة) فما حدث في غالبه الأعم لن يُنسى ولن يُغتفر وسيلقي بظلاله ( السالبة و الموجبة) – على حد سواء- على سودان ما بعد الحرب…
    حفظ الله السودان وأهله جميعا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *