أهمية تطوير الجهاز المصرفي في السودان

354
فكري كباشي الأمين

أ. د. فكري كباشي الأمين

خبير اقتصادي

• يجب أن تبدأ التنمية في السودان وإعادة الإعمار بعد انتهاء هذه الحرب اللعينة، من حيث انتهى الآخرون من تقدم وتطور، فقطعاً ليس بالضرورة على من أتى متأخراً أن يستهل تطوره باختراع العجلة من جديد، ويكرر ذات الأخطاء التي وقع فيها من سبقوه من المتأخرين في اللحاق بالركب. وبالطبع، أن ذلك يتأتى من خلال الاهتمام الجاد بالبحث العلمي والتطوير التقني، وإيلاء الاهتمام والعناية الكافية للدراسات التي تشجع الابتكارات الخلاقة، ومن خلال تعلم كيفية تكييف (التقنية) القديمة بما يتلاءم والحالة الراهنة للعالم، وبداهة أن متطلبات الالتحاق بالركب تتطلب خيالاً إبداعياً خلاقاً، وذهنية متفتحة ومتفتقة، وتتمتع بالتحرر الفكري مع الاحتفاظ والتمسك بالأصالة والتراث والقيم الأخلاقية والدينية السمحة المتوارثة عبر الأجيال وعلى مر العصور. 

كما أن أحد أهم أسباب عدم تطور الجهاز المصرفي بالسودان، هو الإخفاق المستمر في التوصل إلى ابتداع تلك المعادلة التي تحكم المزج بين كل تلك العناصر، المتمثلة في الموارد الثرة، والإمكانات المتاحة، وتأهيل الكوادر البشرية بتوفير سبل التدريب السليمة، وعدم الاستفادة من معطيات التقانة. 

ومن باب التفاؤل وبعد انتهاء هذه الحرب اللعينة، أن البلاد قد تكون قبلة لعديد المصارف الأجنبية، والمدعمة برؤوس أموال ضخمة للاستثمار في السودان، والتي تتطلب العديد من  الإجراءات والتعديلات التي ينبغي إجراؤها على بعض قوانين البنك المركزي. والجهاز المصرفي بوضعه الحالي معرّض لتحديات عديدة تواجه المصارف، جراء دخول المصارف الأجنبية القادمة، والتي تتميز بقدراتها المالية الكبيرة، وخدماتها المصرفية المتطورة، وتقنياتها العالية، مما يجعل المصارف المحلية في موقف ضعيف من حيث المنافسة، أو بصريح العبارة (أن المصارف المحلية بالسودان ستتعرض إلى منافسة غير متكافئة)، الأمر الذي يحتّم على البنك المركزي تبني برامج متكاملة للأخذ بيد تلك المصارف المحلية، ومساعدتها في رفع مقدرتها المالية والفنية، لتواكب المتغيرات، وتستعد لمجابهة المنافسة القادمة. ولذلك ينبعي إعادة النظر في مدى إمكانية تطوير الخدمات المصرفية للمصارف السودانية لمجابهة التحدي الكبير، ولا بدّ من رفع قدرتها، وزيادة معدل قابليتها لتطوير خدماتها المصرفية مستقبلاً، بالشكل الذي يمكنها من منافسة البنوك والشركات المالية العالمية العملاقة في مجال الخدمات المالية، بما يتوفر لها من كفاءات بشرية وتنظيمية وتقنية متقدمة. ويمكن الاحتذاء بعدد من البلدان الآسيوية، والتي قد نجحت في تأمين نصيب كبير من التعاقدات الفرعية مع الشركات والبنوك الرئيسية متعددة الجنسيات، وقد أسهم ذلك في تنمية الدول التي اصطلح على تسميتها (النمور الآسيوية)، وهي تضم كلّاً من كوريا الجنوبية وسنغافورة، وهونج كونج، وتايوان، كما أن هناك دولاً أخرى استفادت كثيراً من عولمة التعاقد الخارجي، مثل ماليزيا وإندونيسيا وتايلاند. 

وأعتقد أن الجهاز المصرفي بالسودان، باعتباره عاملاً مساعداً في تطبيق وتنفيذ السياسات النقدية والمالية، وما يمثله من قلب نابض للاقتصاد، ونظراً للواقع الاقتصادي الجديد، والذي يعيشه السودان، فإنه ينبغي على الجهاز المصرفي أن يكون مستعداً للمنافسة المحتدة التي سيتعرض لها. 

وباستعراض سريع لتطور ونمو الجهاز المصرفي في السودان خلال الفترة الماضية، نجد أنه قد تعرض منذ إنشائه وحتى اليوم إلى عدد من المؤثرات الهامة، والتي أثرت في مسيرته طوال الفترة السابقة، فلقد أنشئ أول بنك في السودان عام 1898م باعتباره فرعاً للبنك الأهلي المصري، ومنذ ذلك الحين ظل الجهاز المصرفي يؤدي خدماته المالية في السودان، ولقد أُسِّس بنك السودان بعد الاستقلال بصفته بنكاً مركزياً له شخصيته الاعتبارية، وبنكاً للحكومة ممارساً سلطات وزارة المالية في وضع السياسات الائتمانية، ومنفذاً للسياسات النقدية المتعلقة بالتحكم في السيولة وعرض النقود. 

وفي البدء ونظراً للدور الرئيسي والأساسي الذي يلعبه بنك السودان بوصفه البنك المركزي، فإنه يتحتم عليه تسارع الخطى نحو تدعيم الشبكة المصرفية السودانية الإلكترونية، والتي يجب أن تشمل جميع البنوك العاملة بالسودان، وتطوير غرفة المقاصة الآلية، لكي يمكن القيام بتصفية الأعمال المصرفية وتسوية طرائق الدفع المختلفة والمتفق عليها على مستوى السودان والمستوى الدولي بشكل أسرع وبسيط، وبكل سهولة ويسر. 

ثم يلي ذلك تأهيل الجهاز المصرفي، من خلال الاهتمام باستقطاب الكوادر البشرية المدربة، والاتجاه صوب تحديث التجهيزات المادية، وتأسيس المصارف المحلية وتجهيزها وفق آخر التطورات التكنولوجية الحديثة في العمل المصرفي، والتي ستساعد حتماً في خلق خدمات مصرفية جديدة متقدمة ومبتكرة، تتناسب مع حاجات ورغبات العملاء. 

ولا بدّ من أن تدرك البنوك التجارية المحلية العاملة، أهمية الاستفادة من تقنيات العصر، واستخدامها في تقديم خدمات مصرفية إليكترونية متطورة للعملاء، باستحداث أجهزة الصرف الآلي، وإضافة خدمات نقاط بيع، وإصدار البطاقات الائتمانية باستخدام أحدث ما توصلت إليه الصناعة المصرفية العالمية في مجال الآليات والتجهيزات والبرامج. وبالإضافة إلى اتجاه البنوك التجارية في تقديم خدمات مالية متطورة، فلا نستطيع أن نغفل الدور الأكثر أهمية لاستقامة الجهاز المصرفي، وهو العمل بجدية لاستحداث البرامج الكفيلة بجذب النسبة الكبيرة من الكتلة النقدية المتداولة اليوم خارج نطاق الجهاز المصرفي. ولذلك يجب التركيز على تغيير المفاهيم السلبية عن الجهاز المصرفي لدى العملاء، والتي رسخت في الأذهان خلال الفترة الماضية، نتيجة لبعض الممارسات الخاطئة، والعمل على إعادة بناء الثقة في المصارف السودانية، من خلال العمل على زيادة الوعي المصرفي، ويتأتى ذلك أيضاً بالاجتهاد والعمل على استخدام التطورات التكنولوجية الحديثة، والابتكارات النقدية والمالية بفاعلية وكفاءة أكثر من قبل، والتي حتماً ستؤدي إلى تغيير كبير في نظرية الطلب على النقود، وبمعنى آخر، فإنه سيصبح بإمكان أي فرد أو هيئة الاحتفاظ بمبالغ قليلة من النقود مادام في الإمكان استخدام آلات الصرف الآلي، والتي يجب أن تنتشر في كل مكان وفق دراسات علمية وعملية، بالإضافة إلى السعي إلى انتشار أجهزة نقاط البيع في مراكز التسوق الكبيرة، والتي ستعطي الفرصة للمتسوقين للدفع السريع دون الانتظار، كما أن ترغيب العملاء في استخدام بطاقات الائتمان سيلغي الحاجة إلى الاحتفاظ بمبالغ كبيرة من النقود، مما يخفف من حدة الطلب على السيولة النقدية في كل الظروف. 

وكذلك لا بدّ من أن تتجه المصارف المحلية صوب الاهتمام الجاد بالتسويق المصرفي، وإعطائه دوراً فعالاً داخل أنظمتها الإدارية الداخلية، والآن وبعد أن أصبح الواقع يشير إلى الاتجاه نحو رفع القيود من أمام حركة تدفق الاستثمارات من قبل المؤسسات المالية الخارجية ذات القدرات التنافسية العالية، والتي تتميز خدماتها المالية بأنها الأكثر كفاءة والأقل تكلفة. ينبغي على المصارف التجارية العمل على تحطيم قوقعة الإمكانات المحدودة، والعمل بكل جدية وتجرد على التوظيف الأمثل لكافة الموارد المادية والبشرية المتاحة، كما أنه من الضروري الاهتمام بالمصارف المتخصصة، ومن المعروف أن البنوك المتخصصة هي عبارة عن بنوك يتخصص كل منها في نشاط مصرفي معين، وتقوم فلسفتها على تحقيق الأهداف التنموية للمصلحة العامة وفق التوجهات الاقتصادية للدولة، بغض النظر عن الربحية، بينما نجد أن البنوك التجارية مفهومها الأساسي يرتكز على الربحية كهدف أساسي يسعى البنك للوصول إليه، ولذلك ينبغي التركيز على أن تظل كل البنوك المتخصصة مملوكة للدولة، حتى تستطيع تقديم خدماتها المالية وفق مقتضيات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، كما تساهم في نجاح السياسات المالية والنقدية لتحقيق المصلحة العامة للسودان، نظراً لحاجة السودان الماسة للبنوك المتخصصة في المرحلة الحالية، ولمقتضيات ومتطلبات التنمية والظروف الاقتصادية التي يمر بها السودان، وحتى يمكن تحقيق التنمية الاجتماعية المنشودة بعد انتهاء هذه الحرب اللعينة، ولكي يتم دعم التوجه القائم الآن نحو استقطاب المزيد من الاستثمارات الخارجية في مختلف المجالات، ويجب التوسع في التطبيقات الرقمية وتعميمها على كافة المصارف، ولا يعقل أن كل السودان يعتمد بنسبة كبيرة على مصرف واحد، مما يستدعي خلق شراكات ذكية بين المصارف وكليات الحاسوب في الجامعات الوطنية، لمعالجة مشكلة البرمجيات، والتي تعتبر أحد تداعيات الحصار الجائر  على دولة السودان، سواء كان المعلن أو الخفي، والذي كشفت عنه مجريات أحداث هذه الحرب اللعينة. وأخيراً يجب انضمام دولة السودان إلى نظام الدفع والتسوية (PAPSS) للبلدان الأفريقية التدفق الفعال للأموال عبر الحدود الأفريقية، مما يقلل المخاطر، ويساهم في التكامل المالي عبر المناطق.

والجدير بالذكر أن نظام (PAPSS) هو أحد أهم المبادرات من Afreximbank، وهو البنك الذي يعتبر مؤسسة التمويل التجاري الأبرز في إفريقيا، والتي تشمل مهمتها تحفيز توسيع وتنويع وتنمية التجارة الإفريقية.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *