إعادة اكتشاف الإنسان السلبي بدواخلنا.. بمقياس مهاتير محمد

28
محجوب الخليفة

محجوب الخليفة

كاتب صحفي

• في العام 1974، حين كان الدكتور مهاتير محمد وزيراً للتربية في ماليزيا، لم يكن مجرد إداري عابر، بل كان رجلاً يختبر طبيعة العقل الجمعي لبلاده قبل أن يتسلّم دفة القيادة في عام 1981. يومها زار إحدى المدارس، وجمع المعلمين والطلاب ليعلن عن مسابقة غير مألوفة: الجوائز ليست للطلاب، بل للمعلمين. وزّع عليهم بالونات، طالباً من كل واحد أن ينفخها ويربطها في ساقه، ثم قال لهم: «أمامكم دقيقة واحدة، وسيفوز من يحتفظ ببالونته سليمة».

انطلقت الصافرة، وبدأ المشهد. لم يحاول أيّ معلم ببساطة أن يحمي بالونته فحسب، بل اندفع الجميع إلى تمزيق بالونات الآخرين، متصورين أن النصر يمرّ عبر هزيمة الزملاء. انتهت الدقيقة، ولم يبقَ بالون واحد. عندها صدمهم مهاتير قائلاً: «لم أطلب منكم أن تهاجموا بعضكم البعض، طلبت فقط أن يحافظ كل واحد منكم على بالونته. كان يمكنكم جميعاً أن تفوزوا، لكن التفكير السلبي في داخلكم غلب كل شيء».

هذه الحكاية البسيطة تختزل مأساة العقل العربي – وربما الإنساني في صورته المتراجعة – حيث تغلبنا الطاقة السالبة، ويُهيمن علينا منطق التحطيم بدل البناء، والإقصاء بدل المشاركة، والغيرة بدل التعاون.

الإنسان السلبي في دواخلنا

الإنسان السلبي ليس شخصاً آخر بعيداً، بل يسكن أعماق كل واحد فينا. يظهر حين نُسارع إلى التشكيك بدلاً من التشجيع، وحين نحتفل بسقوط الآخر أكثر من احتفالنا بإنجازنا، وحين نرى نجاح الجار تهديداً لا إلهاماً. هذه النفسية السالبة تُفشل العلاقات الأسرية، تفسد الصداقات، وتفكك المجتمعات. والأدهى أنها تتحوّل إلى منظومة متكاملة من التفكير السلبي الذي يعيد إنتاج التخلف جيلًا بعد جيل.

لماذا نحن عالقون في دوامة السلبية؟

أسباب كثيرة تجعلنا أسرى هذا التفكير:-

1- الإرث الثقافي والتربوي الذي ربط النجاح بإزاحة الآخر، لا بالتكامل معه.

2- النظم السياسية والاجتماعية التي غذّت النزعة الفردية والصراع على الموارد.

3- البيئة التعليمية والإعلامية التي نادراً ما تزرع قيم التعاون الجماعي، بل تمجّد فكرة «البطل الفرد».

4- الإحباط المزمن الناتج عن فشل مشاريع التنمية، ما جعل الناس يتبنون عقلية «الخسارة حتمية، فلنخسر معاً».

من التفكير السلبي إلى الطاقة الموجبة

أراد مهاتير محمد من خلال تلك التجربة، أن يُفهم المعلمين أن النهضة لا تقوم على إلغاء الآخر، بل على أن نربح جميعاً معاً. وهو المبدأ ذاته الذي حكم تجربته في بناء ماليزيا الحديثة: استنهاض الطاقات، الاستثمار في الإنسان، وتعليم الناس أن التنمية مشروع جماعي.

إذا أردنا نحن السودانيين أو الشعوب العربية والإفريقية – أن نخرج من دوائر التخلف، فالمطلوب أولاً أن نعيد اكتشاف هذا «الإنسان السلبي» في دواخلنا، نواجهه ونكبح جماحه. لن نتقدّم إذا ظللنا نحمل معاول الهدم لبعضنا البعض. لن ننهض ما دمنا نرى في زوال الآخر طريقاً لبقائنا.

نحو عقل جمعي موجب

الطريق للخلاص يبدأ من التربية الواعية، التي تزرع في الطفل أن نجاح زميله يعزز نجاحه هو، ومن الإعلام الذي يحتفي بالمنجزات المشتركة لا بالمشاحنات، ومن الأسرة التي تغرس ثقافة الحب بدل الحسد. نحن في أمسّ الحاجة إلى عقل جمعي موجب، عقل يرى في التعاون وسيلة للبقاء، وفي التعاضد طريقاً للتطور.

مهاتير محمد لم يكن مجرد سياسي بارع، بل كان مربياً فهم أن النهضة تبدأ من إصلاح طريقة التفكير. ونحن أحوج ما نكون اليوم إلى مثل هذا الإصلاح؛ لأن الطاقة السالبة ليست مجرد نزعة فردية، بل هي أخطر معول يهدم حاضرنا ومستقبلنا معاً.

الحكاية التي رواها مهاتير محمد ليست درساً في التربية فقط، بل هي مرآة تكشف حقيقتنا. فإذا لم نكبح الإنسان السلبي في دواخلنا، فلن تصنع التكنولوجيا ولا الثروات نهضة حقيقية. النهضة تبدأ من الداخل، من إعادة توجيه طاقتنا نحو البناء لا الهدم، نحو التضامن لا التناحر.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *