إعادة الإعمار واجب على الكافة

57
pic00
Picture of د. محمد أحمد محجوب عثمان

د. محمد أحمد محجوب عثمان

أستاذ القانون العام المُشارك

• بداية أرجو أن أستميح القارئ الكريم عذراً في الانقطاع عن الكتابة خلال الأسبوعين الماضيين لأسباب اجتماعية مُلّحة.  

درجنا في المقالات السابقة تناول موضوعات قانونية بحتة، قصدنا منها تنوير القارئ الكريم بالجوانب القانونية لما يُحيط به من أحداث دولية ومحلية تتصل بحياته وواقعه المعاش لقناعتي التامة بأن القانون لا يكون فعّالاً ونافذاً وسائداً ومحترماً إلا بعلم الكافة بحقوقهم وواجباتهم. 

استأذن القارئ الكريم في هذا المقال بالخروج قليلاً من سوح القانون ولغته إلى حيث الأمور الحياتية وإدارة الدولة والمجتمع، وهي بلا شك لا تنفك عن القانون فقد تعلمنا في بواكير دراسة القانون أن (القانون: مشتق من كلمة كانون وهي كلمة لاتينية قديمة تعني النظام)، فالقانون من أهم أدوات تنظيم الجماعات وضبط التعاملات والمعاملات بين أفرادها بما يحفظ الحقوق ويقرر الواجبات لذا تجدنا في حياتنا نتحدث عن قانون الجاذبية وقانون الطبيعة، والقانون الذي يقوم على قواعد قانونية لا ينفك بطبيعته عن القواعد الأخرى (الأخلاقية والاجتماعية وقواعد المجاملات وغيرها)، فهي جميعها تشكل قواعد النظام العام المكونة من الأمن العام والسكينة العامة والصحة العامة وكلها ضرورية لحياة الأفراد والمجتمعات والدول.

طُرحت الكثير من المبادرات والأفكار الفردية والجماعية عبر مجموعات التواصل الاجتماعي وعبر المنظمات والتنظيمات والأهالي في المدن والقرى والأرياف، لذا فإن هذا المقال لا يُعد سابقة حديثة أو فكرة جديدة وإنما هو امتداد لمبادرات سبقت، قصدت منه إضافة صوتي لأصوات سبقت عله يجد من يسمع.

شهدت العديد من الدول صراعات وحروب واضطرابات داخلية أدت لتعطيل الحياة فيها بسبب تدمير البُنى التحتية ومقومات العيش فيها وتوقف عجلة الإنتاج واهدار الكثير من الموارد والطاقات بسبب توقف الأنشطة الاقتصادية، وعلى الرغم من أن ما حدث في حرب السودان المستمرة منذ ابريل 2023م حتى الأن شهدت نمطاً جديداً وغريباً ومختلفاً عن كل الحروب والصراعات التي شهدها السودان والدول من حولنا بسبب الدعم الخارجي وسكوت المجتمع الدولي والإقليمي عن كل الانتهاكات المُخطط لها بعناية فائقة ودقة شديدة إلا أن الوضع العام ومحصلات الدمار والخراب يمكن تجاوزها أو تقليل آثارها لدرجات معقولة إذا ما تضافرت الجهود وارتقت الهمم وخلصت النوايا، لذا سأختصر مقالي في شكل مقترحات للأجهزة الحكومية  والمجتمعات والأفراد، راجياً من أهل الاختصاص التعديل فيها والكتابة حولها لتكون خارطة طريق وموجهات لإعادة الاعمار سيما في ظل ارتفاع الأصوات المُنادية بالعودة الطوعية وتزايد عدد العائدين من الدول والولايات المُختلفة لمواطنهم الأصلية مع الحراك الملحوظ من الأجهزة الرسمية الاتحادية والولائية لتوفير متطلبات العودة المتمثلة في خدمات بسط الأمن والصحة والمياه والكهرباء وغيرها من ضرورات الحياة.

  فكرة العنوان مستوحاة من واحد من المبادئ المهمة الواجب إعمالها عند تطبيق مبادئ الإجراءات الجنائية والتي تنص على أن: منع الجريمة واجب على الكافة، وبلا شك أن المنع يشتمل على إجراءات وقائية وأخرى احترازية وثالثة منعية ورابعة كشفية وغيرها، وكذلك الأمر في إعادة الإعمار فهو يحتاج لخطط وتخطيط وروئ وفكر وتفكير وتضافر مكونات المجتمع المختلفة، ذلك أن إعادة الاعمار تتطلب جهدا ومالاً ووقتاً أكبر وأكثر من الإعمار نفسه، وفي تقديرنا أن إعادة الإعمار يجب أن تبدأ بإعادة صياغة البشر قبل الحجر فارتقاء المعاني أولى من المباني، وإصلاح القلوب مقدم على اصلاح الطرق والدروب، لذا لا بد من تضافر الدور الرسمي مع الدور الشعبي وأن يكون للكل مساهمة واضحة ملموسة على النحو التالي:    

دور الأجهزة الرسمية في إعادة الاعمار

من أهم مقومات الدولة الحديثة التعليم والعدالة، إذ لا يتصور قيام مجتمع سليم معافى ومتناغم إذا ما اختل أحدهما، وبالتالي لا تقوم الدول ولا تتطور بدونهما، ومفهوم العدالة يتسع ولا يضيق، فلا نقصد به سلامة إجراءات التقاضي فحسب وانما يتسع ليشمل العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمشاركة في الحياة العامة والتنمية والخدمات المتوازنة وتوزيع الفرص بالتساوي ودونما أي تمييز والتساوي في الحقوق والواجبات والالتزامات، لذا فإن الدولة الحديثة يجب ان تستدعى الطاقات والهمم وتوظفها لتوظيف السليم وتدعم الجهود وتستغل الطاقات وتزيل كل إحساس بالظلم والحواجز والطبقات وأن تستفيد من التنوع البشري وتنوع الموارد والمناخات في إيجاد فرص التعاون ورفع الإنتاج والإنتاجية عبر مجتمع متعاون ومتناسق ومتكاتف تسوده قيم الوطنية والوحدة والالفة والإخاء.  

تتعدد وظائف ومهام الدولة في فترة ما بعد الحرب لإعادة الإعمار، ويجب على حكومة الأمل الجديدة أن تكون أملاً حقيقاً بالعمل لا بالشعارات، فالمواطن ينتظر منها الكثير رغماً عن العوائق والمعضلات التي لازمت تشكيلها وتشبث البعض بالمناصب والسعي اليها جاعلين المنصب تشريفاً وليس تكليفاً، لكن وبلا شك فإن الإرادة الجماعية والأهداف الكلية سيكون لها الغلبة وستتلاشى دونها الأطماع الضيقة، لذا اقترح أن تسعى حكومة الأمل لتحقيق الآتي:

وضع خطة موضوعية وبرنامج عمل مُحدد من حيث المطلوبات وآليات تنفيذها عبر جدول تفصيلي يحدد الأشخاص المكلفون بها ومجالها المكاني والزماني.

دراسة أسباب قيام الحرب وطول أمدها وتقييم دور كل الأجهزة ذات العلاقة بها قبل قيامها وخلال فترة استمراراها وبعدها.

الاهتمام بالحوكمة والرقمنة والانتقال من مرحلة العمل التقليدي للحوسبة والحكومة الالكترونية ووضع معايير ومواصفات أعمال الحكومة.

الاستعانة بالخبراء والاستشاريين كل في مجاله وتبني فكرة المجالس الاستشارية للوزارات والمفوضيات والهيئات الحكومية.

الإصلاح الاقتصادي والاستغلال الجيد والفعال للموارد، وأن تتبني الدولة مهام تصدير السلع بعد تصنيعها عبر بورصات حكومية بعيدا عن التصدير بواسطة الشركات والأفراد ثم البحث عن حصائل الصادر التي امتنعت مئات الشركات عن دفعها.

ضبط الانفاق الحكومي وترشيده وتقليله لأدني مراحله.

تفعيل دور البنك المركزي في سيطرته على النقد المحلي والأجنبي واحكام سيطرته على البنوك التجارية.

مراجعة سياسات الحكومة السابقة المتعلقة بالخصخصة والشركات الحكومية وشبه الحكومية وضرورة إدارة الدولة الفعلية للمشروعات القومية والصناعات الاستراتيجية.

اعتماد مواصفات الاعمال والإجراءات والزام كل أجهزة الدولة والمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص بالعمل بموجبها.

احكام الضبط القضائي والإداري وتفعيل دور المراجع العام ومحاسبة كل من يتعدى على المال العام أو يتجاوز اللوائح المالية وقوانين ونظم الشراء والتعاقد. 

دعم خدمات بسط الأمن والخدمات الشرطية الأخرى. والإسراع في إخلاء العاصمة والولايات الآمنة من مظاهر الوجود المُسلح غير المنضبط وتطبيع الحياة المدنية وإعلاء قيم العدالة وسيادة حكم القانون.

الإصلاح التشريعي والمؤسسي وإعلاء قيم العدالة وسيادة حكم القانون ومحاربة الفساد وعلى رأسه الفساد الإداري والكف عن التعيين والترقي والتكليف القائم على المجاملات والمحاصصات السياسية والمناطقية.

تشكيل لجان لحصر وتقييم الأضرار الواقعة على المرافق الحكومية والخاصة وممتلكات المواطنين مع ضرورة مساهمة الدولة الواضحة في إعادة الاعمار وذلك بتوفير مواد البناء وإعادة الاعمار بأسعار رمزية وتيسير وتسهيل الإجراءات الحكومية المتعلقة بالتفتيش وتصاديق البناء.

متابعة الآثار المنهوبة والمهربة وإعادة ارجاعاها عبر اليونيسكو والآليات الدولية المختصة والدول وفق تعهداتها الاتفاقية بموجب اتفاقيات حماية الممتلكات الثقافية.

إعادة رسم علاقات السودان الخارجية وفقاً لمصالح الدول ومواقف الدول من الحرب الأخيرة ومعاملتها للسودانيين الذين لجأوا أو هاجروا إليها، والكف عن المجاملات والدبلوماسية التقليدية.

مراجعة تعامل الدولة مع الكيانات الدولية والإقليمية، ومراجعة موقف السودان من الاتفاقيات الدولية وحقوق الدولة ومواطنيها ومدى التزام تلك الآليات بواجباتها وتحديد جدوى استمرار الدولة في تلك الاتفاقيات أو انسحابها منها.  

تضع كل وزارة خطة تفصيلية عاجلة لبرامج عملها، على أن يُراعى فيها الموضوعية والابتعاد عن التنظير والتقليدية.

مراجعة وضبط الوجود الأجنبي واللاجئين والمعاملة مع رعايا الدول بالمثل.

الإسراع في توفير الخدمات الأساسية والضرورية لبقاء السكان وتطويرها لتشجيع المزيد من العودة الطوعية.

استيراد السلع الضرورية اللازمة لحياة الأفراد بواسطة الحكومة وتحديد أسعارها للمستهلك واغراق الأسواق لمحاربة تجار الأزمات.  

تشجيع الصناعات الوطنية ومنح تسهيلات استيراد مطلوباتها من ماكينات ومواد خام وغيرها واعفاء أو جدولة المديونات الحكومية على أصحابها وإيقاف أو تقليل الرسوم الحكومية مقابل قيام المصانع بالمساهمة في مشروعات الاعمار.

تشجيع الاستثمارات للمال الوطني والخارجي بطرح مشروعات حيوية ومهمة ترتبط بالبنى التحتية من تشييد طرق وتطوير قطاع السكة الحديد وخطوط المترو داخل الولايات والمدن عن طريق نظام البوت. 

مراجعة مناهج التعليم العالي والعام وتشجيع التعليم المهني والفني والصناعي، وتسهيل استيراد معينات التدريس واحتياجات المعامل وورش التدريب بالجامعات.

الاستفادة من مقدرات الخريجين وطاقات الشباب في الاعمار وطرح المشروعات الصغيرة الجماعية والفردية.

إعلاء قيم الوحدة والتعايش عبر الخطاب الإعلامي الرسمي وفي منابر المساجد وخطاب الكنائس وعبر الدراميين والشعراء والمطربين وغيرهم.

إعادة برامج الخدمة الوطنية وغرس روح التربية الوطنية في نفوس الأطفال والشباب خلال مناهج التدريس المختلفة.

تقديم الدعم المادي والعيني والنفسي للمتأثرين من الحرب وإعادة ادماجهم في المجتمع.

تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في حق المشاركين في الحرب والمتورطين فيها، والإسراع في محاكمة المتعاونين مع التمرد والمتخابرين معه من العسكريين والمدنيين.

تكثيف الجهد الإعلامي الرسمي وغير الرسمي لعكس اثار ونتائج الحرب وكشف الانتهاكات وتمليك الحقائق للقنوات الفضائية والصحافة الحرة المحايدة وتمكينها من عكس الواقع للعالم.

التحرك الرسمي وغير الرسمي نحز المنظمات الدولية والإقليمية والدول الصديقة لتبني انشاء صناديق إعادة الاعمار.

دور الأجهزة غير الرسمية والأفراد

   تتعدد الأجهزة غير الرسمية لتشمل المنظمات غير الحكومية، والإدارات الأهلية والتنظيمات المجتمعية واللجان المحلية والجمعيات التعاونية والكيانات واللجان المختلفة والمجموعات على وسائط التواصل الاجتماعي وغيرها، فهي تتسع لتشمل كل مجموعة من الناس تحمل بين جوانبها خدمة أو فكرة تسعى من خلالها للتطوير والتحديث وخدمة الغير، لذا فان للأجهزة غير الرسمية أدواراً مُتعددة ظهرت بصورة واضحة في حياتنا من خلال ثقافة النفير والفزع المعروفة في المدن والقرى والأرياف في حالات الافراح والاتراح والظروف الاستثنائية، وقد ظهرت بصورة تلقائية خلال هذه الحرب في صور متعددة منها نقل واستضافة الفارين من الحروب وتكايا الطعام واسعاف المصابين ومعالجة المرضى والتبرع بالدم والمساهمة في العودة الطوعية من قٍبل الجماعات والأفراد وغيرها من الممارسات والأعمال الجليلة، يمتد دور الأجهزة غير الرسمية في إعادة الاعمار بعد الحرب ليشمل:

تكوين لجان الخدمات وحفظ الأمن المحلية بالتنسيق مع الجهات الرسمية المختصة.

انشاء الجمعيات التعاونية والشبابية والنسوية.

تطوير وتشجيع الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالموارد والبيئة المحلية والتي تتوافق مع قدرات ومقدرات وثقافة السكان المحليين. 

استقطاب الجهد الرسمي والشعبي لتطوير خدمات المنطقة.

اعلاء الوطنية والأخلاقية ومحاربة العادات الضارة ومحاربة العطالة والبطالة وتوجيه طاقات الشباب نحو الإنتاج والاعمار. 

اتاحت حالات اللجوء والهجرة والنزوح تداخل المجتمعات واختلاط الثقافات، لذا على المجتمعات المحلية والأفراد نقل القيم والأفكار المفيدة والتي تتماشي مع القيم المحلية وترك التقليد الأعمى ونقل السلوك والثقافات غير اللائقة والمظهر الذي لا ينسجم ولا يتوافق مع القيم المحلية.

تمليك المشروعات الإنتاجية الصغيرة وتشجيع الزراعة المنزلية وحول المنازل وتربية الحيوانات والطيور المنتجة لرفع مستوى دخل الأسر والأفراد وتحقيق أعلى درجات الاكتفاء الذاتي.  

قيام الأنشطة الرياضية والثقافية والذهنية لتوجيه طاقات الشباب لما يفيد.

إشاعة روح التعايش والتعاون والتكافل وقبول الآخر.

صهر المجتمع في بوتقة واحدة ومحاربة خطاب الكراهية والفرقة والتكتلات العنصرية والمناطقية والانفتاح نحو المجتمعات المحيطة. 

المساهمة بالمال والجهد والفكر في إعادة الاعمار، كلٌ وفق قدراته ومقدراته.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *