قصة قصيرة: لا يا قيس .. لا ..  

96
سيف الدين حسن بابكر

سيف الدين حسن بابكر

• الآذان جاءني من بعيد …  

الكلمات تمور في داخلي: ما أمر الحياة على من فقد وليفه وعانى من إنكسار الروح والتشتت والضياع!  

حبيبتي ما زالت تلوح بخاطري في الزفير والشهيق؛ تتشكل من كل شيء حولي: حفيف الهواء وضوء الشمس وذرات الرمل وأمواج النهر.  

زمن تكويني بدأ لحظة أن التقيتها؛ وهيامي بها ضم المدينة كلها بطرقها وأزقتها وحيطانها وحواريها ودورها ومساجدها وكنائسها وقبابها بل وقبورها ،وحين يتداخل البرق والرعد والخريف والشجر!!  

من العسير أن أصف الارتجاف الذي يهز بدني وذكراها ماثلة أمامي أو أن أحبس الدمعات الطافرة بلا استئذان من عيني وقد اختلط نهارها بليلها. لقد كانت القمر والنجم معا  حين تظلم الدنيا. والمطر ساعة الجفاف واليباس والمحل. حقيقة لم تكن بشرا  يسير بيننا على قدمين بل مجرة أدور حولها ككويكب مجهول!  

إلى متى يتسربلني هذا التمزق والتشتت والانكسار؟ إن أيامنا التي عشناها حقا  كان الزمن لا يغشاها فكيف تحول كل ذلك إلى تراب وغبار رمادي غمر وأهال ما يحمل على ذلك الجدول الرقراق حيث كنا نجلس متجاورين؟  

كيف مرت الأيام بدونها؟ وأين أنا من ديارها؟ النهار والليل يتداخلان وشبح الموت يتربص بالحياة ويوشك أن يهزمها.  

عزمت أن أحج إلى مكة وأتعلق بأستار كعبتها سائلا  اﷲ أن يسعفني مما حاق بي  من حبها. وأنا أقترب من أستار الكعبة هالني منظر طائف أشعس أغبر ممزق الثياب خالط شعر لحيته شعر رأسه نحيل الجسم وألتصق لحم جسمه بعظام أضلعه فصار يشابه هيكلا  عظميا  أكثر من أن يكون بشرا  وسط الطائفين.  

تعلق بصري به وبمن يقف بجانبه وهو يحثه  قائلا:   

– ( قيس.. يا بني أسأل اﷲ أن يعافيك من حب ليلى..). 

ارتجفت وأنا اكتشف أن من يجاورني هو قيس.. قيس بن الملوح، ونسيت أن أتعلق بأستار الكعبة وقيس يسبقني لذلك. وما أن أمسك بها حتى هتف من أعماق روحه: (اللهم زدني لليلى حبا ، وبها كلفا ، ولا تنسني ذكرها أبدا .) قام والده بجذبه بعيدا  ولم أتردد أنا بالإمساك بأستار الكعبة مرددا  ما علق بذهني من كلمات ابن الملوح صائحا  بأعلى صوتي ودموعي منسكبة بلا توقف على وجهي ولحيتي: 

(اللهم زدني لحبيبتي حبا ، وبها كلفا  ولا  تنسني ذكراها أبدا .) وانفجرت باكيا  بحرقة  تماثل يوم فراقنا. صوت ابن الملوح ضاع مع تكبيرات الحجيج وأباه يجذبه بعيدا  وهو يصيح: (لبيك يا ليلى لبيك…!)  

تذكرت قيسا  يوم أن التقى «بورد» زوج ليلى وسأله قائلا :  

بربك هل ضممت إليك ليلى   

قبيل الصبح وهل  قبلت فاها؟  

وعندما أجابه بالإيجاب قام قيس بالقبض على جمرتين متقدتين حتى تساقط لحم كفيه وسقط من بعد ذلك مغشيا  عليه.  

وأنا كنت أسافر بخيالي عابرا  الأطلنطي إلى حيث ارتحلت حبيبتي مع بعلها وأتسلل إلى مرقدها كل مساء متخيلا  أدق لحظات المعاشرة الحميمية رافضا  أن تكون هي من تهبه روحها وجسدها… التخي ل يمزقني ويأكل من أحشائي فأردد في صمت: (لن تهبه روحها… جسدها نعم، أما روحها فهي لي .)  

شعوري تجاه حبيبتي طغى على سلطان عقلي وأوشكت أن  أهيم بالفلوات كما هام إبن الملوح وهو يخالط الذئاب والظباء جامعا  الضدين معا  حتى حان أجله ،وعندما ق بر زارت الوحوش كلها قبره، وجلس أبو ليلى عند رأس قيس الم سجى  قائلا: (واﷲ ما علمت أن الأمر يبلغ إلى هذا المدى).  

لحظتي الأولى معها يوم أن لمحتها جالسة على مقعد للرسم وظهرها للحائط خارج قاعة المحاضرات.. غمرني شعور غريب. وجهها كان صغيرا .. لون بشرتها يميل للسمرة.. تصفيفة شعرها كانت بسيطة وهي ترسله إلى خلف ظهرها. 

الجو كان معتدلا  في ذلك الشهر من العام.  

شرعت أنظر لها بتدقيق وتمعن. وأيقنت بجمال الروح الكامنة فيها.. وتناغمنا بعد أيام قلائل من ذلك اللقاء..! ذلك الاختيار الذي دفعني بعد عام إلى حافة الجنون وأورد قلبي التحسر وعيوني الدموع والعبرات. حقيقة طبعت بصمتها على روحي. ك نت أقرأ بنهم وأنقل لها ما قرأت. أحلامنا كانت بسيطة لا تحمل مستحيلا ، وظللنا نتقاسمها ونعيش على طعمها.  

الزواج يقتل الحب…!!) فاجأتها ذات صباح قاتم بهذا المفهوم البوهيمي الفرنسي الغريب..! وإنتقل بعد أيام إلى أحلامنا يدمرها كفيروس قاتل فصارت تتهاوى وتتداعى وتتقهقر أمامه كجيش مندحر لا يقوى على المواجهة والصدام فانصرع حلمنا وصرنا إلى فراق.  

أكملت إجراءات انتقالها إلى جامعة أخرى في صمت  وتركت جامعتنا بقاعاتها ومساراتها الداخلية صحراء بلقع.  

أحسست بالمعنى الحقيقي للألم والمعاناة.. وأنا أتساءل أيهما الأقسى ألما… 

أهو الألم العاطفي، أم الجسدي، أم العقلي؟ لقد قامت هذه الآلام مشتركة بتشكيل فوضى كبيرة في داخلي تحولت إلى شعور واحد قاس ومؤلم.  

سعيت لتفريغ وجعي وعواطفي بالشرب والجنس الرخيص… وصارت لوحاتي بكائيات ناطقة ووجهها لا يغيب عني في كل ما أمارس من عبثيات. 

حاولت أن أوازن بين كل هذه الأشياء مجتمعة وكان أن أيقنت بأنني فاشل. 

وخلصت  إلى أن الفشل هو حالة ذهنية لأن السلام فارق عقلي.. لا  أهدافا  ممكنة التنفيذ بل صرت  أراها مستحيلة، فسعى  دائما  أصبح خلف أجوبة لا أستطيع الحصول عليها. وكان أقساها: (ما الفائدة من إدراك جوهر الحياة ومعناها؟) وهل الموت هو ما ينهي الحياة وليس إنتهاء العلاقة بين روحين؟ وهل النسيان  صعبا؟  

جعلت أحد ث روحي: (ليس العالم شمسه مشرقة وأقواس قزحه تلون سماواته على مدى الأيام. إن وضاعته وقسوته لابد أن تجندلك في يوم غائم مطير، وستنزلق حتما  في وحل عطن، قد تخرج منه إذا كانت إرادتك أقوى من بروقه وقعقعة رعده.)   

في النهاية يصبح ألمك الأكبر هو الإعاقة الحقيقية لك إن ارتبط بتصرف سيء غير مدروس الخواتم، وهذا ما انزلقت له عندما  بلغت باقتراب موعد زواج حبيبتي من «ورد»!!!  

رواد الحانة بدأوا يتناقصون في تلك الليلة وما زال صديقي بجانبي ونحن في حالة إغراق… احتسينا خمرا  تليق بمظهرنا ونحن في مفتخر ثيابنا وقد أبقيته بجانبي لنقتحم حفل زفاف حبيبتي وبعلها «ورد» وقد انتويت شرا  حسبته سيهيل الرماد على نيران كآبتي المشتعلة منذ عامين وقد فارقتني مقامات النور وأحوال الصفاء وبارحتني ركائب الحب إلى الأبد!  

تقدمنا نحو المسرح بخطوات ثقال حيث جلس العروسان… قرأت الإرتباك في محياها وقد فقدت لمعة الحياة.! في عينيها نظرة خابية خالية.. المسافة تتقلص بيننا خلته طريق الجنون وأنا أمد يدي متحسسا  مسدس أبي سريع الطلقات وقد أخفيته عمن جاء يقاسمني تلك الليلة التعيسة.  

في تلك اللحظات أحسست باختلاط ثريات الحفل المضاءة بالنجيمات البعيدة، وبات الموت على بعد خطوات من الحياة.. ووجه حبيبتي كسته حيرة وإنفعال وبعد قاسي المنال كجبل «التوباد» حيث كنت ألقاها. جروحي النازفة انفجرت ساعتها من جديد تبحث عمن يضمدها ويدثرني ويزملني وجسمي يزداد إرتجافا . 

المسافة بيننا تقصر تماما  بل توشك أن تتلاشى..  وقفت  مرتعشة  مهتزة  لاستقبالي ودمعي يسبقني إليها ودموعها تنطق وتحكي بما لا يقوى لسانها أن يحكي به.  

فجأة أدخلت  يدي في جيب سترتي وأشهرت مسدسي في قبالة «ورد»… 

صراخها طغى على ليلة العرس بكل صخبها وضجيجها:  

– يا قيس لا.. لا يا قيس  لا يا قيس لا. 

 

شارك القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *