• كيف يمكن الحديث عن بناء السلام، فيما تُروى جذور العنف في عقول الأطفال داخل المدارس؟ ذلك هو التحدي الجوهري الذي يواجه النظام التعليمي في السودان، حيث تشير الأدلة التربوية إلى أن العنف السائد في الشارع ليس ظاهرة عشوائية، بل نتيجة مباشرة لتنشئة معرفية ونفسية تشكّلت داخل البيئة التعليمية.
فالمدرسة، بصفتها المؤسسة التربوية الأولى، تسهم بفاعلية في تشكيل وعي الأفراد. وإذا كانت بيئتها قائمة على التلقين والخضوع، واستخدام العقاب الجسدي والنفسي، فإنها تُنتج أفراداً يعتادون العنف ويبرّرونه. يتعلم الطفل منذ الصفوف الأولى أن السؤال وقاحة، وأن الطاعة فضيلة عُليا، وأن الضرب وسيلة تربوية مشروعة. وفي ظل غياب تدريب مهني للمعلمين على احترام عقل الطفل وكرامته، تتحول المدارس من ساحات تعلّم إلى فضاءات تُغذّي الاستبداد والتهميش.
المشكلة لا تقتصر على الممارسات الصفية، بل تمتد إلى بنية المناهج ذاتها، التي غالباً ما تفتقر إلى التفكير النقدي، وتعزز الانغلاق والانتماء الأحادي بدلاً من التعددية والتسامح. فلا تسمح للتلميذ باستخدام لغته الأم في التعليم والاعتزاز بها، ولا تتيح له تطوير أدوات التحليل والتعاطف، بل تدفعه إلى الحفظ والترديد والانقياد.
لذلك، فإن الإصلاح الجذري للمناهج التربوية يجب أن يكون في صميم أي مشروع وطني للسلام والتنمية. ويقتضي هذا الإصلاح تأسيس فلسفة تعليمية جديدة، تقوم على قيم الحوار والمواطنة، والاعتراف بالآخر، وتعزيز مهارات التفكير الجماعي، والحد من النزعات الفردية التنافسية التي تُنتج التهميش والصراع.
نحن بحاجة إلى خطة قومية شاملة، يشارك في إعدادها التربويون وعلماء النفس والاجتماع والمفكرون، لإعادة بناء التعليم من جذوره. فكل رصاصة تُطلق اليوم، ما هي إلا نتيجة لفكرة مسمومة زُرعت قبل سنوات في عقل صغير.
إن مستقبل السلام يبدأ من المدرسة، وكل تأخير في إصلاح التعليم ليس سوى إطالة لأمد العنف، وتأجيل لفرص التعافي الوطني.