الأمانة – تاج الفضائل وسِرّ النُبل الإنساني

36
جعفر الفاضل الدهمشي

د. جعفر الفاضل الدهمشي

كاتب صحفي

(مقال بتوقيع الضمير والقانون)

مقدمة:

(حين تعلو القيمة فوق المصالح)

في زمنٍ تداخلت فيه القيم مع المصالح، وتعثرت فيه الفضائل تحت وطأة السرعة والمنفعة، تبقى الأمانة كجوهرة مشعة في تاج الإنسانية، لا تُشترى ولا تُباع. إنها ليست مجرد التزام أخلاقي، بل هي رابط قانوني داخلي، يحكم الضمير قبل أن يضبط التصرف. فالأمانة تُعانق القوانين من جهة، وتُصافح النُبل الأخلاقي من جهة أخرى، في اندماجٍ فريد يُرسّخ ثقة الإنسان بإنسانيته أولاً، وبمن حوله ثانيًا.

تعريف الأمانة:

* الأمانة في اللغة: 

الأمانة مصدر أمِنَ أمانةً فهو أمين. وهي من الأمن. والأمن أصله: سكون القلب وطمأنينة النفس وزوال الخوف.. وهي ما يُؤتمن عليه الإنسان ويُكلف بحفظه.. والأمانة: ضد الخيانة.

* الأمانة في الإصطلاح:

هي كلُّ حقّ لَزِمَك أداؤه وحفظه.

● وقيل هي: (خُلُق ثابت في النَّفس يَعِفُّ به الإنسان عمَّا ليس له به حقٌّ، ويؤدِّي به ما عليه أو لديه من حقٍّ لغيره).

* الأمانة في المفهوم القانوني:

المفهوم القانوني للأمانة يرتقي بها لتكون إلتزاماً إرادياً يحكمه العقد والنية، ويخضع للمساءلة الجنائية أو المدنية متى أُخلّ به. جاء في القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م المادة (177) خيانة الأمانة:

(1) يعد مرتكباً جريمة خيانة الأمانة من يكون مؤتمناً على حيازة مال أو إدارته ويقوم بسوء قصد بجحد ذلك المال أو امتلاكه أو تحويله إلي منفعته أو منفعة غيره أو تبديده أو التصرف فيه بإهمال فاحش يخالف مقتضى الأمانة، ويعاقب بالسجن مدة لا تجاوز سبع سنوات كما يجوز معاقبته بالغرامة.

(2) إذا كان الجاني موظفاً عاماً أو مستخدماً لدى أي شخص أؤتمن على المال بتلك الصفة، يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز أربع عشرة سنة مع الغرامة أو بالإعدام.

بالإضافة إلى جرائم أخرى كثيرة نصّ عليها القانون يمكن تصنيفها تحت مجهر الأمانة.

أدلة الأمانة:

  في القرآن الكريم:

قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [سورة الأحزاب ٧٢]

في السنة النبوية:

عن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اضْمَنُوا لي سِتًّا من أنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الجنةَ: اصْدُقُوا إذا حَدَّثْتُمْ، وأوْفُوا إذا وعَدْتُمْ، وأَدُّوا الأمانةَ إذا ائتُمِنْتُمْ، واحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وغُضُّوا أَبْصارَكُمْ، وكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ). أخرجه أحمد، وابن أبي الدنيا، وابن حبان.

* الأمانة في الشعر العربي:

كن للأمانة راعياً لا 

للخيانة تستكين

حتى ولو سراً فكن 

للسر حافـظه الأمين

أنواع الأمانة:

(تعدُّد الصور واتساع الدائرة)

الأمانة ليست قالباً واحداً تُحصر فيه المعاني، بل هي أفق واسع يشمل جوانب متعددة من حياة الإنسان. إنها قيمة تتداخل في السلوك والمبدأ، وتتجلى في صور عديدة ترتقي بالإنسان والمجتمع، ومن أبرزها:

* أمانة الدين:

صون العقيدة والدعوة لها بسماحة وأخلاق.

* أمانة النفس: 

احترام الذات وحمايتها من الأذى والضياع.

* أمانة العقل:

تغذيته بالعلم وحمايته من الانحراف أو التزييف.

أمانة المال:

التصرف فيه بعدل، ومنع هدره أو سرقته.

أمانة النسل:

تربية صالحة، وحماية الأسرة من التشتت والفساد.

* أمانة النعمة:

كل نعمة وهبها الله لنا هي اختبار؛ فشكرها وصونها هو دليل وفائنا بها.

* أمانة الكلمة:

الكلمات ليست مجرد حروف، بل عهود تُلقى على الهواء وتُحمل في القلوب… فلتكن صادقة، نقية، وبعيدة عن الخداع.

* أمانة الولد:

فلذات الأكباد أمانة في الأعناق، تربيةً، ورعايةً، وغرساً لقيم تبني إنساناً راقياً.

* أمانة العمل والوظيفة:

حين نُوكل بمسؤولية، فالإخلاص فيها هو أصدق تعبير عن الأمانة، والنجاح يبدأ من إتقان الدور المكلَّف به.

* أمانة حفظ السر:

السر أمانة مودعة، وحفظه علامة على نقاء النفس وسمو الأخلاق… فلا تُفرّط في ما استُؤمنت عليه.

بهذا التنوع، تتجلّى الأمانة كأرقى مظاهر النبل الإنساني، فهي ليست عبئاً يُثقل الكاهل، بل نور داخلي يُضيء طريق الانتماء الحقيقي للإنسانية. كل أمانة تختبر جوهر المرء، وكل نوع منها يُجسّد صورة من صور الوفاء الرفيع، ومن عاش بها تنفس طهراً يعلو فوق الماديات. فالمسؤولية لا تمنحنا فقط وزناً، بل تُشكّل قيمتنا، فكن أميناً تنشر النور حيثما حللت.

الأمر بحفظ الأمانة:

(تكليف إلهي لا اختيار بشري)

ليس حفظ الأمانة فضيلة اختيارية، بل واجب وُضع ضمن منظومة التكليف الشرعي، وهي ليست سلوكاً يُكتسب، بل تكليفٌ سماويّ يسمو بالإنسان من مجرد كائن يفعل إلى روح تُؤتمن. فهي ركنٌ من ركائز الدين، نزل بها الوحي الأمين، ونادى بها القرآن الكريم، قال تعالى: “إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا”، لتكون الأمانة مسؤولية ممتدة من الأرض إلى السماء، ومقياساً للصدق في الإيمان والمعاملة.

وحيث إن الأمانة تمس كيان المجتمع، جعلها القانون الوضعي -كذلك- التزاماً صارماً يُحاسب عليه من يفرّط فيه. فخيانة الأمانة ليست خطأ عابراً، بل جريمة تهدد العدالة وتهدم الثقة، وقد تصل عقوبتها إلى أقصى درجات الردع. ففي حفظ الأمانة تستقيم العلاقات، وتنمو المعاملات، وتزدهر المجتمعات.

الحث على الأمانة:

(جذوة أخلاقية تُوقد ضمير الإنسان النزيه)

الأمانة مرآة التربية، لا تُكتمل ملامح الإنسان السوي إلا بها:

–  في الأسرة: تُغرس كفن الحماية واحترام حدود الآخر.

– في المدرسة: تُنحت في نفوس النشء ملامح النظام والعدل.

– في القانون: تُستنهض النزاهة وتُكرَّم الشفافية في مواقع الثقة.

–  في الإعلام: تُبنى القيم وتُزرع المثل، فالكلمة أمانة والصورة مسؤولية.

–  في المسجد ودور العبادة: تتجدد الدعوة للضمير، وتُرسّخ مكارم الأخلاق بالتوجيه الروحي.

* في السوق وأماكن العمل: تُختبر الأمانة في الصدق والعدل والشفافية اليومية.

هكذا تتجلّى الأمانة، فنّ إنساني تنخرط فيه كل مؤسسات الحياة، لتغرس في النفس بذور النقاء وتُهدي القلب نحو اتجاه لا ينحرف. إنها ليست زينة خُلقية تُعلّق على الجدران، بل هندسة أخلاقية تُهندس الضمير وتُؤسس لإنسانٍ يؤدّي واجبه بصدق، لا رهبةً من المراقبة، بل وفاء لما يؤمن به في داخله.

التحذير من خيانة الأمانة:

(سُقوطٌ يُفتك بالضمائر ويُهدّد نسيج الثقة)

ليست هناك جريمة تمزّق الروح وتُدمّر العلاقات كخيانة الأمانة؛ إذ تقع في لحظة، لكن سمّها يسري طويلاً في شرايين الثقة حتى تيبس.

في القانون: تُغلَّظ العقوبات ليس تشفّياً، بل سدّ للانهيار المجتمعي المحتمل حين تنخَر أعمدة الموثوقية.

في النفس: الخائن يعيش صراعاً داخلياً مَرَضياً، اختلّ فيه ميزان الأخلاق، فلا يُستعاد له اعتبار، ولا تُرمّم له سمعة.

وهكذا جاء التحذير من خيانة الأمانة، لا كوصية عابرة، بل كجدارٍ دفاعي يحمي روح الإنسان، ويصون تماسك المجتمع من أن يتحوّل إلى أطلالٍ بفعل خيانةٍ واحدة.

صور متجلّية للأمانة في الحياة اليومية:

في كل لحظة يعيشها الإنسان، تُعرض عليه الأمانة بشكل أو بآخر: 

– سائق الحافلة الذي يحفظ أرواح الركّاب، 

– الطبيب الذي يصون سرّ مرضاه، 

– المحامي الذي يحفظ سر موكله،

– الموظف الذي لا يُفرّط في زمن العمل، 

– الكاتب الذي لا يُزوّر المعنى، 

– حين يُعيد طفلٌ قطعة نقود وجدها في الطريق، 

– حين يكتم فردٌ سِرّ صديقه رغم الخلاف. 

هذه الصور ليست هامشية، بل هي البناء الحقيقي للمجتمع المستقيم.

خاتمة  

الأمانة بوصلة أخلاقية في زمن الضياع:

في عالم تتناقص فيه المعايير، وتختلط فيه المبادئ، تبقى الأمانة بوصلة لا تنحرف، مهما شحّت الموارد أو زادت الإغراءات. إنها ليست طوبى أخلاقية، بل هي أساس العدالة الاجتماعية، وأمن العلاقات الإنسانية، وجوهر القانون الراشد. حين تُحفظ الأمانة، تُحفظ الكرامة، ويُعاد ترتيب العلاقة بين الفرد والكون، فيكون الإنسان بحقّ كائناً جديراً بثقة الأرض والسماء.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *