(الجندول) .. قصيدة رومانسية ميّزت شاعرها 

67
علي محمود طه2
Picture of بقلم: زين العابدين الحجاز

بقلم: زين العابدين الحجاز

• على محمود طه المهندس المصري شاعر هذه القصيدة  ولد في  سنة 1901 بمدينة المنصورة  لأسرة من الطبقة الوسطى وقضى معظم شبابه فيها. تعلّم في الكتّاب كسواه من أبناء جيله ثمّ انتقل إلى المدرسة الابتدائية و بعدها إلى مدرسة الفنون والصناعات التطبيقية و تخرّج فيها سنة 1924 مساعد مهندس معماري و تمّ تعيينه في هندسة المباني بالمنصورة . اتصل بعد ذلك ببعض رجال السياسة فعمل في سكرتارية مجلس النواب  وصار وكيلاً لدار الكتب المصرية .  

 أُصيب الشاعر على محمود طه في نهاية صيف 1949 بشلل نصفّي مفاجىء فدخل إلى المستشفى في القاهرة ولما أخبره الطبيب أنه يستطيع العودة إلى بيته ارتدى ملابسه وحاول الخروج ولكنّ منيته عاجلته قبل أن يتخطّى باب المستشفى ودفن بالمنصورة رحمه الله.          بعد وفاته كُتبت عنه الكثير من الدراسات عن حياته وشعره ودواوينه. خلال حياته دخل فى تجارب عاطفية و لم يوفق فيها وعاش ومات دون أن يتزوج وعرف مجالس اللهو والطرب وهذا ما أثّر في شاعريته الفياضة  بل كان شعره صدى لتجاربه في الحياة . كان كثير الزيارات والسفر إلى أوربا  فزار عدداً من بلدان أوروبا و أحدثت زياراته إلى تلك البلاد انقلاباً في نفسه و فتحت أمامه آفاقاً شعرية جديدة فلما زار مدينة (فينسيا)  في صيف عام 1938  حضر الاحتفال السنوي بعيد الكرنفال  و نظم قصيدة  (الجندول) التي غنّاها المطرب  محمد عبد الوهاب فجلبت له شهرة واسعة. وفى السودان غنّاها بلحن خاص الفنان عبد الرحمن ابن الشاطئ ثم غنّاها الأستاذ عبد الكريم الكابلي و قرنها بقصيدة كليوباترا التى غناّها أيضا محمد عبد الوهاب فأجاد كابلي فيها وأبدع وأصبحت سمة من سمات أعماله الخالدة  فى مكتبة الغناء السوداني وهذا نص القصيدة  :

أين من عينيّ هاتيك المجالي 

يا عروس البحر يا حلم الخيال

……

أين عشاقك سمّار الليالي

أين من واديك يا مهد الجمال 

موكب الغيد وعـيد الكرنفال

وسرى الجندول فى عرض القنال 

……

بين كأس يشتهي الكرم خمره

وحبيب يتمنّى الكأس ثغره

إلتقت عيني به أول مرة

فعرفت الحب من أول نظرة

…….

مرّ بي مستضحكا في قرب ساقي 

يمزج الراح باقداح رقاق

قد قصدناه على غير اتفاق 

فنظرنا و ابتسمنا للتلاقي

…….

وهو يستهدي على المفرق زهرة

ويسوّي بيد الفتنة شعره

حين مست شفتي أول قطرة

خلته ذوّب في كأسي عطره

……..

ذهبي الشعر شرقي السمات 

مرح الأعطاف حلو اللفتات

كلما قلت له خذ قال هات 

يا حبيب الروح يا اُنس الحياة

……

أنا من ضيّع في الأوهام عمرَه

نسي التاريخ أو اٌنسي ذكره

غير يوم لم يعد يذكر غيره

يوم أن قابلته أول مرة

……

قال من أين و أصغى ورنا 

قلت من مصر غريب هاهنا

قال إن كنت غـريباً فأنا 

لم تكن فينيسيا لي موطنا

……

قلت والنشوة تسري في لساني

هاجت الذكرى فأين الهرمان 

أين وادي السحر صداح المغاني 

أين ماء النيل  أين الضفتان 

….

آه لو كنت معي نختال عبره 

بشراع تسبح الأنجم إثره

حيث يروي الموج في أرخم نبرة 

حلم ليل من ليالي كليوباتره

…….

أيها الملاح قف بين الجسور 

فتنة الدنيا وأحلام الدهور

صفّق الموج لولدان وحور 

يغرقون الليل في ينبوع نور

……….

ما ترى الأغيد وضاء الأسِرّه 

دقّ بالساق وقد أسلم صـدره

لمحب لفّ بالسـاعد خصـره 

ليت هذا الليل لا يطلع فجره

……..

رقص الجندول كالنجم الوضيئ

فاشدو يا ملاح بالصوت الشجي

وتـرنّم بالنشـيد الـوثني 

هذه الليلة حلم العبقري

……

شاعت الفرحة فيها والمسرّة

وجلى الحب على العشاق سرا

يمنة مل بي على الماء ويسرة

إن للجندول تحت الليل سحرا

……

لعله من المناسب هنا أن نلقى الضوء على مدينة (فينيسيا)  التي ألهمت الشاعر بهذه القصيدة  . تقع مدينة  (فينيسيا) أو (البندقية)  في شمال إيطاليا و تضم مجموعة من الجزر متصلة ببعضها البعض عن طريق الجسور     و من أشهرها ما يطلق عليه (جسر التنهدات)  . تطل (فينيسيا) على البحر الأدرياتيكي وبالتالي فهي تعد من أهم وأجمل المدن الإيطالية لما تتمتع به من مبان تاريخية يعود أكثرها إلى عصر النهضة في إيطاليا بالإضافة إلى ذلك فإن فيها قنوات مائية مميزة وفريدة من نوعها على مستوى العالم .  تعتبر القوارب  أو الجناديل – جمع (جندول) – أهم و أكثر طرق المواصلات انتشاراً فيها فهي أصعب مدينة في العالم من حيث التنقل بداخلها  ولذلك فإن  وسائل التنقل فيها محصورة في تلك القوارب الكلاسيكية  والتي تحتكرها عوائل بعينها وتتوارثها جيل عن جيل منذ القدم  . اسم (فينيسيا) هو مصطلح لاتيني يدل على اندماج مجموعة من الجزر و خلال فترات الحكم العربي أطلق عليها العرب اسم (البندقية) محرفا من اسمها القديم  (بونودوتشيا) أي الدوقية الجميلة. حظيت (فينيسيا) برعاية منظمة اليونسكو مما جعلها ثاني أكبر المدن الإيطالية استقبالاً للسياح و الزوار بعد مدينة روما وازدهرت عوامل الجذب السياحي فيها و تطورت بشكلٍ ملحوظ و كبير بالاضافة الى تميّزها بطقس لطيف و معتدل فهي مدينة ولا مدن الأحلام وألف ليلة وليلة. أما المهندس على محمود طه فقد أسره الجو المحيط بهذه المدينة الساحرة فهاجت نفسه وتدفقت شعراً وكابلي نجح فى تجسيد تلك الإنفعالات كمن رأى وسمع  بل وشم  كل ما حرّك دخيلة الشاعر فخرجت الأغنية نحتا عبقريا وتصويرا بديعا لكل ذلك . أما أنا  ففي العام  2006  قمت بزيارة عمل الى  شركة في ايطاليا و بالتحديد في مدينة (ريجو ميليا) ومن هناك  اصطحبني مدير الشركة في جولة سياحية الى (فينيسيا) حيث قضيت الساعات الطوال  في أزقتها المائية واقفا بين الجسور و ساريا بالجندول في عرض القنال بينما يرّن في مسامعي صوت عبدالكريم الكابلي وهو يترنّم بكلمات هذه القصيدة  الرائعة لكننى للأسف لم  أشاهد موكب الغيد و لم أحضر  عيد الكرنفال.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *