ضرب مراكز الوعي: الحرب النفسية الحديثة في خاصرة الجيش

13
لؤي إسماعيل مجذوب 2

لؤي إسماعيل مجذوب

ضابط سابق - باحث في شؤون الأمن الوطني والحرب النفسية

• في توقيت بالغ الدقة، ومع كل شبر تستعيده القوات المسلحة في كردفان، تطفو على السطح موجة جديدة من الهجمات، ليست بالصواريخ ولا بالدرون، بل بأدوات أخطر: الإشاعة، التسريب، الشك، والفتنة. إنها حرب نفسية مركبة، بوسائل إعلامية وتكتيكات إلكترونية موجّهة، لا تستهدف خطوط النار، بل دوائر صنع القرار ومفاصل الثقة داخل المؤسسة العسكرية.

ليست حربًا «ناعمة» بل استنزاف موجه للوعي

ما يُطلق عليه البعض «حرب ناعمة»، لا يفي بالغرض هنا. نحن أمام شكل متطور من الحروب النفسية، يمكن تسميته بـ»حرب تفكيك نفسي ومعنوي»، تهدف إلى ضرب تماسك القيادة وتوافق القرار العسكري والأمني، وذلك عبر حملات منظمة لبث الشكوك والفتن داخل الصفوف.

شائعات ممنهجة تتحدث عن:

تواطؤ مزعوم لشخصية رفيعة مع العدو.

استخدام أسلحة كيميائية في بعض الجبهات.

تغييرات سيادية مفترضة، توحي بوجود انقسامات خفية داخل القيادة.

ليست هذه أخبارًا عشوائية، بل رسائل موجهة بعناية، تُنتجها غرف إلكترونية مدفوعة ومموّلة من جهات استخبارية إقليمية، تعمل على تنفيذ مخطط دقيق: تفكيك وعي القيادة، وإضعاف الجبهة النفسية للجيش.

الهدف ليس الميدان، بل القيادة

العدو بات يدرك أنه فقد زمام المبادرة في الميدان بعد انهياراته المتتالية في كردفان، وانكشافه في دارفور. ومن هنا، انتقل من استهداف المواقع العسكرية إلى استهداف المواقع القيادية داخل القوات المسلحة.

إن التركيز على المقربين من القائد العام أو رموز المؤسسات السيادية، محاولة لإحداث شرخ داخلي في منظومة القيادة، ودفع الجيش إلى حالة من التوتر الممنهج، لتقليل فاعلية القرار، وتسويق فكرة وجود خلافات داخلية قد تبرر طرح «الحلول الدولية» أو مشاريع التقسيم.

ملامح الحرب النفسية الجديدة

هذه ليست إشاعات تقليدية، بل حرب متطورة بأدوات رقمية:

إدارة آلاف الحسابات الوهمية والتنسيق بينها.

بث مواد إعلامية مفبركة بحرفية عالية.

توجيه الرسائل النفسية المشفرة عبر تطبيقات مغلقة.

استغلال الفجوات الإعلامية الرسمية للتأثير على الضباط وصف الضباط وحتى الرأي العام.

وتُشير المعلومات إلى أن هناك مجموعات ضغط إلكتروني، تعمل وفق أجندة إقليمية ودولية، هدفها إضعاف الجيش من الداخل، وإعادة تشكيل المشهد السوداني خارج إرادة الدولة.

لماذا الآن؟

التوقيت ليس بريئًا. المليشيا تفقد الأرض تباعًا، والدعم الشعبي يتراجع، والتحالفات الخارجية تُعاد صياغتها. في المقابل، يحقق الجيش مكاسب نوعية في كردفان، ويتهيأ للتقدم إلى دارفور.

في ظل هذا التقدم، ظهر خيار العدو الأخير: معركة معنويات تشكك في القيادة، وتوحي بصراعات داخلية، وتضرب الثقة في المؤسسة العسكرية.

الاستهداف ليس إعلاميًا فحسب… بل سيكولوجي ومؤسسي

الهجمة الأخيرة تحاول التمهيد لـ:

زعزعة الثقة الرأسية بين القيادة والقواعد.

ضرب وحدة القرار العسكري.

تكريس صورة صراعات داخلية تبرر تدويل الملف السوداني.

إرباك المؤسسة العسكرية لقبول مشاريع «التسوية المفروضة».

المواجهة: استباق لا رد فعل

الحرب النفسية لا تُواجه بالسكوت، بل بالاحتراف، عبر:

رصد مبكر للمضامين الإعلامية الموجهة.

تحليل سيبراني لمصادر الرسائل المشوشة.

تنشيط الخطاب المؤسسي العسكري بشفافية ووضوح.

تطوير خطاب ميداني يوازي الانتصار العسكري، ويتصدى للحرب النفسية بالقوة نفسها.

كما أن بناء ثقة داخلية بين مكونات الجيش، وضمان وضوح الرؤية الاستراتيجية للضباط في كل المستويات، يساهم في تحصين الصفوف من أي اختراق معنوي.

الرسالة الختامية: لا حصانة من الفتنة إلا بالتماسك

ما يجري ليس مجرد معركة «فيسبوك»، بل محاولة منظمة لتفكيك هيبة الجيش من الداخل، والتشكيك في قراراته، وخلق بيئة تبرر الهدم وإعادة التشكيل.

في ظل هذا الوضع، على القوات المسلحة أن تثبت أنها لا تُهزم لا في الأرض ولا في المعنويات، وأنها قادرة على مواجهة العدو في الميدان، وفي غرف التحكم الإلكتروني، وعلى واجهة الرأي العام الوطني والدولي.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *