• كانت السينما المتجولة (أو السينما الجوالة) واحدة من أبرز أدوات التنوير الثقافي، التي استخدمها السودان منذ بدايات الاستقلال وحتى سبعينيات القرن العشرين، بل وأحيانًا بعد ذلك.
هذه السينما لم تكن مجرد عرض للأفلام، بل كانت وسيلة تعليمية وإعلامية وتثقيفية، تنقل المعرفة والرسائل الاجتماعية والسياسية إلى أوسع جمهور ممكن، لا سيما في القرى والمناطق الطرفية.
فكرة السينما المتجولة
بدأت الفكرة في السودان خلال فترة الحكم البريطاني، لكن تطورت بشكل كبير بعد الاستقلال (1956) عبر أقسام الإعلام الحكومية، وعلى رأسها مصلحة الثقافة والإعلام، التي كانت تسعى لنشر الوعي الوطني، ومحو الأمية، والتوعية الصحية والزراعية.
فكان يتم إعداد شاشات عرض كبيرة، غالبًا من القماش الأبيض، وتُستخدم أجهزة عرض (بروجكتر) لعرض الأفلام في الساحات العامة، خاصة بعد غروب الشمس، مع توفير كراسي أو جلوس على الأرض. وكانت تُرافقها عادةً عربات تحمل المعدات، ويسبقها الإعلان بميكرفون متنقل في القرى:
«الليلة في عرض سينمائي بالميدان الكبير!».
السينما المتجولة ومشروع الجزيرة
من أبرز الأماكن التي ازدهرت فيها السينما المتجولة مشروع الجزيرة الزراعي، وهو من أكبر المشاريع الزراعية في إفريقيا، ويضم عشرات القرى والكنابي (المجمعات السكنية للعمال والمزارعين).
اهتمت الدولة والمؤسسات التعليمية والثقافية في الستينات والسبعينات بإرسال قوافل سينمائية متنقلة إلى قرى المشروع، تعرض:
أفلامًا عن كيفية زراعة القطن، ومكافحة الآفات الزراعية.
أفلامًا توعوية عن الصحة العامة، مثل محاربة الملاريا والبلهارسيا.
أفلامًا قصيرة عن الوحدة الوطنية، وأهمية الإنتاج والعمل.
وأحيانًا تُعرض أفلام سينمائية درامية عربية، أو حتى أفلام وثائقية سودانية.
وقد قامت هذه العروض بدور مهم في تثقيف المزارعين، ورفع وعيهم المهني والاجتماعي، فضلًا عن خلق جو من المتعة والتجمّع الاجتماعي الذي انتظره الناس بشغف.
دور السينما الجوالة في الوجدان السوداني
بالنسبة لأجيال الخمسينات حتى السبعينات، كانت السينما الجوالة تمثل لحظة احتفال ودهشة.
يقول كثيرون ممن عاشوا تلك الحقبة، إن أول مرة شاهدوا فيها صورًا متحركة كانت عبر «السينما الجوالة».
وكانت هناك رسائل مباشرة، تُقرأ قبل العرض أو بعده، بصوت المذيع المصاحب، كأن يقول:
«النظافة من الإيمان… وحافظ على مصدر مياهك من التلوث».
الانحسار والانبعاث الممكن
مع دخول التلفزيون، وانتشار وسائل الإعلام الأخرى، بدأت السينما المتجولة تتراجع تدريجيًا، حتى اختفت تقريبًا في التسعينات.
لكن يبقى أثرها في الذاكرة، كأحد أنبل أشكال العمل الثقافي الجماهيري في تاريخ السودان.
وقد بدأت محاولات بعث هذه الفكرة من جديد، عبر مبادرات شبابية ومؤسسات مستقلة، خاصة في مجال توثيق التراث، أو تقديم عروض سينمائية خارجية.
شارك المقال