
م. معتصم تاج السر
كاتب صحفي ومحرر صفحة السودان الأخضر (فويس)
• في الواقع السوداني كثيراً ما يولد الحُبّ في صمت ويكبر في الحلال ويختنق بين ضلوع العادات أو يُحاصر بأصوات الأهل أو يُفجع بمرارة الظروف.
ورغم صدق المشاعر ورغبة الحبيبين في الحلال الطيب تأتي إرادة الله بما لا يتوقّعه القلب.
لا زواج ولا اكتمال بل نهاية يكتبها القدر.
الحُبّ في مجتمعنا ليس مجرد حكاية تُروى بل جرحٌ لا يُشفى وذكرى لا تموت.
كثيرون أحبوا بصدق ثم افترقوا مجبرين وتركوا خلفهم قلوباً تنبض بأسماء لا تُقال وحنيناً يُشبه الموت البطيء.
وهذا ما صاغه إبن «التراجمة» الشاعر الشاب «عمر يوسف ود الحوري» في قصيدته هذة وهي من شاكلة قصائد كثير وجدت رواجاً واسعاً في الفترة الأخيرة من الشباب، لما حملته من صدقٍ وشجنٍ وتجسيدٍ بليغٍ لمآسي الفراق.
يجسد لنا الشاعر ان شاباً ذات يوم عاد من الغربة البعيدة الى قريتهِ.
وفي مساء حزين كان يجلس مع أهله في «الحوش» حين سمع الزغاريد تخترق سكون الفريق «الحي».
لم يكن بحاجة لمن يخبره فقد فهمها وحده…!!
كانت زغاريد رحيلها إلى رجلٍ غيره…!
فعلى لسانه قال ود الحوري :
«سامع زغاريد في الفريق
قالوا شنطتها والعقد
حسيت بنفسي ابت تحس
حتى الفراش ما بترقد»
لم يكن ضعيفاً لكنه كان هشًّا أمامها.
أحبها كما لم يُحب رجلٌ من قبل.
رأى فيها النقاء كلّه وبنى حلمه على ضحكتها وخياله على حضورها. لكنها لم تكن له..!
وإن القدر قرر أن يفرق بينهما قبل أن تكتمل الحكاية.
لم يُحمّلها اللوم ولم يغضب من قلبها بل سلّم أمره لله وقالها في سره وفي صوته المرتجف حين بلغه الخبر :
«يا السمحة ما لُمتك انا
فرقنا حظنا والقدر»
أدمن البكاء بعد رحيلها ولم تُفلح محاولاته في إخفاء حزنه.
دموعه كانت تتكلم حين يسكت وكانت العيون من حوله تبكي لبكائه :
«عودتي عيوني على البكاء
ولكن عيون الناس بكن»
ظل يراها كما عهدها طاهرة، نضرة، تمشي في ثوب من العفاف الذي أحبّه فيها.
وكلما خطر طيفها، زادت أوجاعه، وكأن فراقها صار مرضاً عضالاً لا يُرجى شفاؤه :
«يا السمحة فرقنا القدر
يا حلوة كاسيكي العفاف»
وحين علم أنها ستتزوج تزلزل داخله شيء لا يُوصف. لم يكن الأمر مجرّد خبر بل كان موتاً صامتاً يُنهكه بلا صوت.
لم تُجْدِ زيارة الأطباء والأدوية ولا النصائح لأن روحه كانت تختنق :
«ودوني لي مليون طبيب
يوم طيفك الجواي خاف»
ويوم مشت إلى دار العريس اختنق الكلام في حلقه وغرقت الدنيا في عينيه.
كان يتمنى لو أن تلك الزفة حلم وأنه حين تلبس الزفاف تمنى ان يكون لبسه يومها كفن لعل وجعه يُدفن معه :
«يوم تمشي ل دار العريس
يوم تلبسي الطوق والزفاف
ان شاء الله لبسي يكون كفن»
ومع كل ذلك لم يجزع من أمر الله وما قسم.
كان مؤمناً أن ماشاء الله له هو خير وأن القلوب الصافية ترضى وإن احترقت :
«يا السمحة ما لُمتك انا
فرقنا حظنا والزمن
يا سمحة فرقنا القدر
واللى راضو ربنا كلو خير»
ولم ينسها…!
ولنّ ينساها…!
فهي تسكن فيه حتى بعد الرحيل وحتى حين يُسأل في قبره كما قال سيكون طيفها أول ما يخطر بباله :
«والله ما بنساك يوم
لامن يجيني سؤال نكير»
ويعود الحنين ليقوده إلى هناك…
إلى ظل الشجرة، وضحكتها إلى الونس قبيل المغيب والحياة التي لم تكتمل…!
كانت أياماً لا تُشترى ولا تُنسى ولا تُعاد:
«حليل أيامنا الزمان
والونسة في ضل العصير
أيااام زمان ما بتلقن..!؟»
هو لم ينسها…
فقط تعلّم أن يعيش بذكرى لا تذبل…!
وتلك من أقسى دروس القدر في الحُبّ.
ويبقى السؤال..؟
هل يعاني السودانيون فعلاً من كثرة فشل العلاقات العاطفية..!؟
يبدو أن «الشواكيش» كما يسميها الشباب، ليست مجرد مزحة دارجة، بل انعكاس حقيقي لأزمة اجتماعية متكررة.
أسبابها كثيرة من ضيق الحال، تدخل الأسر، الخوف من المستقبل، أو حتى ضغط المجتمع.
لكنها في النهاية تترك خلفها جيلاً حائراً بين الحُبّ والمصير…!
وبين ما يُراد له وما يشتهيه القلب…
وهكذا…
يبقى الحُبّ في السودان قصة لا تكتمل ورحلة غالباً ما تتوقف على أعتاب القدر.
لا يفتقد السودانيون مشاعرهم بل يُصابون بشظايا الواقع كلما همّوا بالاقتراب من أحلامهم.
ومهما اختلفت الأسماء وتعددت القصص، تظل النهاية واحدة فراقٌ مؤلم، وحنينٌ دائم، وقلوب تواسي بعضها «بالرضا بالقسمة والنصيب».
لكن وسط هذا الحزن يبقى الإيمان بإرادة الله هو العزاء الأكبر والركن الأحنّ الذي تتكئ عليه الأرواح المُنكسرة.
فليس كل حُبّ يُكتب له أن يُتوّج بالزواج، ولكن كل حُبٍ صادق يُخلّد في القلب… !
ويبقى حياً ولو لم يُثمر لقاءً…!
وكما أقولها وأؤمن بها:
«دائماً للحُبّ حسابات أخرى»
أشواقي والسلام
شارك المقال